ولكن جبل تلقاها بثبات وصبر، والتفت إلى الهانم قائلا: إنما أكرمه إكراما لك.
ثم ولى لهما ظهره وذهب.
39
توقع آل حمدان شرا داهما. وخالفت تمر حنة الإجماع، فظنت أنه ما دام جبل على رأس آل حمدان هذه المرة فلن تسمح الهانم بالقضاء عليه. لكن جبل نفسه لم يؤمن بظن تمر حنة وأكد أنه إذا هدد الوقف طامع فلن يقام وزن لجبل ولا لأحد من الناس ولو كان أقربهم إلى الأفندي نفسه. وذكرهم جبل بوصية جدهم بأن يكونوا أقوياء وأن يصمدوا للملمات. ومضى دعبس يقول: إن جبل كان يرفل في النعيم وإنه نبذه مختارا إكراما لهم، فلا يصح أن يخذله أحد، وإن التذرع بالقوة إذا لم ينفع، فلن يدفع بهم إلى أسوأ مما هم فيه بحال. والحق أن آل حمدان استشعروا الخوف وتوترت منهم الأعصاب ولكنهم وجدوا في اليأس قوة وعزيمة فكانوا يرددون المثل القائل «لطابت لاتنين عور».
رضوان الشاعر وحده راح يقول متحسرا: «لو شاء الواقف لأعلن كلمة العدل وقضى لنا بالحق ونجانا من هلاك مبين.» وقد غضب جبل لما بلغه قوله، فقصده عابسا هائجا ثم هزه من منكبيه حتى كاد يقتلعه من مجلسه وصاح به: «أهذا هو حال الشعراء يا رضوان؟! تروون حكايات الأبطال وتغنون على الرباب، فإذا جد الجد تقهقرتم إلى الجحور وأشعتم التردد والهزيمة؟! ألا لعنة الله على الجبناء!» والتفت إلى الجالسين قائلا: «لم يكرم الجبلاوي حيا من أحياء هذه الحارة كما أكرمكم، ولو لم يكن يعتبركم أسرته الخاصة ما لاقاني ولا كلمني، ولكنه نور السبيل ووعد بالتأييد، ووالله لأكافحن ولو كنت وحدي!» لكن بدا أنه لم يكن وحده. أيده كل رجل، وأيدته كل امرأة، وانتظروا جميعا المحنة وكأنهم لا يبالون بالعواقب.
واحتل جبل مكان الزعامة في حيه بطريقة عفوية أملتها الأحداث دون قصد منه أو تدبير، ودون ممانعة من حمدان الذي ارتاح إلى تخليه عن موضع سيصير هدفا لهجوم لن يعرف مداه. ولم يقبع جبل في الربع فخرج - مخالفا نصيحة حمدان - ليتجول كعادته. كان يتوقع شرا عند كل خطوة ولكن أحدا من الفتوات لم يتعرض له بسوء، فعجب لذلك غاية العجب، ولم يجد له من تفسير إلا أن يكون الأفندي قد كتم أنباء المقابلة على أمل أن يسكت هو أيضا عن مطالبه فينتهى الأمر وكأنه ما كان. وأشفق من أن ينتهي الأمر وكأنه ما كان. ورأى وراء هذه السياسة وجه الهانم المحزون وأمومتها الصادقة. وخاف أن يثبت حنانها أنه أقسى عليه من غلظة زوجها، ففكر طويلا فيما ينبغي أن يفعل لينفض الرماد عن الجمر.
وجرت في الحارة أحداث غريبة. فذات يوم ترامت استغاثة امرأة من بدروم، وتبين أن ثعبانا زحف بين قدميها فخرجت تجري إلى الطريق. وتطوع رجال للتفتيش عن الثعبان فدخلوا مسكنها بعصيهم، وفتشوا عن الثعبان حتى عثروا عليه، فانهالوا عليه ضربا حتى قتلوه، وطرحوه على أرض الحارة فتلقفه الغلمان وراحوا يلعبون به مهللين. ولم يكن الحادث بالغريب في الحارة ولكن لم تكد تمضي ساعة حتى ارتفعت صرخة استغاثة ثانية من بيت في مطلع الحارة فيما يلي الجمالية. وما جثم الليل حتى تعالت ضجة في ربع من ربوع حمدان، إذ رأى البعض ثعبانا ولكنه اختفى قبل أن يلحق به أحد، وضاعت جهود القوم للعثور عليه، وعند ذاك تطوع جبل نفسه لاستخراجه مستعينا بالخبرة التي اكتسبها عند البلقيطي. وتحدث آل حمدان عن وقفة جبل عاريا في الحوش، وعن لغته السرية التي خاطب بها الثعبان حتى جاء طائعا. وكادت تلك الأحداث تنسى مع صباح اليوم التالي لولا أن تكرر وقوعها في بيوت أناس من ذوي الشأن. فقد ذاع وملأ الأسماع أن ثعبانا لدغ حمودة الفتوة وهو يقطع دهليز الربع الذي يقيم فيه، فصرخ الرجل على رغمه حتى أدركه أصحابه وأسعفوه. هنا انقلب الحادث أحدوثة. وقال الناس في الثعابين وأعادوا.
غير أن نشاط الثعابين العجيب لم يتوقف. فقد رأى بعض الصحاب في غرزة الفتوة بركات ثعبانا بين عمد السقف، لاح نصف دقيقة ثم اختفى، فهبوا مذعورين وتقوض المجلس. وغطت أخبار الثعابين على حكايات الشعراء في المقاهي. وبدا أن نشاطها قد جاوز حدود الأدب، إذ ظهر ثعبان ضخم في بيت حضرة الناظر. ومع أن خدم البيت الكثيرين انتشروا في أركانه للتفتيش عن الثعبان المختفي إلا أنهم لم يقفوا له على أثر. وركب الخوف الناظر والهانم حتى فكرت جديا في مغادرة البيت إلى أن تطمئن إلى خلوه من الثعابين. وبينما البيت مقلوب رأسا على عقب ترامى من بيت زقلط فتوة الحارة صراخ وضجة، وذهب البواب ليستطلع الخبر ثم عاد ليخبر سيده بأن ثعبانا لدغ أحد أبناء زقلط ثم اختفى؛ وتملك الخوف النفوس. وتتابعت الاستغاثات من الثعابين من كل ربع فصممت الهانم على مغادرة الحارة.
وقال عم حسنين البواب: إن جبل حاو وللحواة خبرة باصطياد الثعابين، وأكد أنه استخرج ثعبانا من أحد ربوع آل حمدان. وامتقع لون الأفندي ولم ينبس، أما الهانم فأمرت البواب بأن يستدعي جبل. ونظر البواب إلى سيده مستأذنا، فغمغم الأفندي بكلمات حانقة دون أن يبين. وخيرته الهانم بين دعوة جبل وبين مغادرة البيت، فأذن للرجل بالذهاب وهو ينتفض حنقا وغضبا وتجمع كثيرون فيما بين بيتي الناظر والفتوة، وتوافد ذوو الشأن على بيت الناظر وفي مقدمتهم الفتوات: زقلط وحمودة وبركات والليثي وأبو سريع. ولم يكن للمجتمعين من حديث إلا الثعابين، فقال أبو سريع: لا بد أن شيئا في الجبل دفع بالثعابين إلى بيوتنا!
فصاح زقلط وقد بدا وكأنه يقاتل نفسه؛ لأنه لا يجد من يقاتله: طول عمرنا جيران للجبل وما حصل منه شيء.
Bog aan la aqoon