لم يجبه. وبدا وكأنه يخاطب نفسه. ثم قال: لا تطيب الحياة وبها أمثال أولئك الأوغاد. - صدقت، ولكن كيف التخلص منهم؟
ارتفع صوت الراعي وهو ينادي أغنامه ، ويسير نحوها متأبطا عصاه الطويلة، ثم ترامى عنه لحن غناء غير واضح. وتساءل دعبس: كيف أستطيع أن ألقاك؟ - سل عن بيت البلقيطي الحاوي عند سوق المقطم ولكن اكتم خبري إلى حين.
ونهض دعبس فشد على يده ومضى والآخر يتابعه بعينين محزونتين.
37
أوشك الليل أن ينتصف. وكادت حارة الجبلاوي تغرق في الظلمة لولا أضواء وانية تتسلل من أبواب المقاهي المواربة اتقاء للبرد. ولم يلح في سماء الشتاء نجم واحد، وتوارى الغلمان في الحجرات وحتى الكلاب والقطط أوت إلى الأفنية. ومن خلال الصمت الشامل انبعثت أنغام الرباب الرتيبة تردد الحكايات، أما حي آل حمدان فقد تلفع بظلمة خرساء. وجاء شبحان من ناحية الخلاء، فسارا تحت سور البيت الكبير، ثم مرا أمام بيت الأفندي، قاصدين حي آل حمدان، حتى وقفا أمام الربع الأوسط وطرق أحدهما الباب، فرن الطرق في الصمت مثل قرع الطبول. وفتح الباب عن وجه حمدان نفسه الذي بدا شاحبا على ضوء سراج بيده ورفع السراج ليتبين وجه الطارق، وما عتم أن هتف في دهشة: جبل؟! - وتنحى عن الباب فدخل جبل حاملا بقجة كبيرة وجرابا، وتبعته زوجه حاملة بقجة أخرى. وتعانق الرجلان. وألقى حمدان نظرة سريعة على المرأة فلمح بطنها، وقال: زوجتك؟ أهلا بكما، اتبعاني على مهل.
اخترقوا دهليزا طويلا مسقوفا حتى بلغوا الحوش الواسع غير المسقوف، ثم مالوا إلى السلم الضيق ورقوا فيه حتى مسكن حمدان. وأدخلت شفيقة إلى الحريم، ومضى حمدان بجبل إلى حجرة واسعة متصلة بشرفة مطلة على حوش الربع. وما لبث خبر عودة جبل أن ذاع فأقبل كثيرون من رجال آل حمدان على رأسهم دعبس وعتريس وضلمة وفوانيس ورضوان الشاعر وعبدون، فصافحوا جبل بحرارة، وجلسوا في الحجرة على الشلت يتطلعون إلى العائد باهتمام وحب استطلاع. وتتابعت الأسئلة على جبل فقص عليهم طرفا من حياته الأخيرة. وتبادلوا نظرات الأسى. ورأى جبل أن أرواحهم المضعضعة تنعكس على أجسادهم المهزولة وأن الفناء يدب في الأوصال. وقصوا عليه ما يلقون من هوان، فقال دعبس: إنه أخبره بكل شيء في لقاء اتفق لهما منذ شهر؛ وإنه لذلك يعجب لما جاء به، وسأله ساخرا: أجئت لتدعونا للهجرة إلى مقامك الجديد؟
فقال جبل بحدة: لا مقام لنا إلا هنا!
وجذب الأسماع في صوته نبرة قوة حتى لاح الاستطلاع في عيني حمدان وقال: لو كانوا ثعابين لما استعصى عليك ردعهم.
ودخلت تمر حنة بأقداح الشاي فحيت جبل تحية حارة، وأثنت على زوجه، وتنبأت له بأنه سينجب ذكرا، ولكنها قالت مستدركة: لم يعد من فارق بين رجالنا ونسائنا!
ونهرها حمدان وهي تغادر الحجرة، ولكن أعين الرجال عكست اقتناعا ذليلا بقولها، وتكاثفت سحب الأحزان المخيمة على المجلس، فلم يذق أحد للشاي طعما. وتساءل رضوان الشاعر: لماذا عدت يا جبل وأنت لم تألف الإهانة؟
Bog aan la aqoon