Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Noocyada
من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءك!» هذه العلامة إذا من أخطر العلامات. ها قد فرغنا الآن من عرض فكرتنا: إن كل ما يتخذ دليلا على صدق الفلسفات والعلوم وصحتها هو دليل غير صحيح، سواء كان مستمدا من منشئها أو من نتاجها أو من تقدمها أو من اعترافات واضعيها أو من الإجماع (عليها). (78) نأتي الآن إلى أسباب هذه الأخطاء، والأسباب التي جعلت الناس تتعثر بها طيلة هذه القرون، هذه الأسباب هي من الكثرة والقوة بحيث يزول معها أي عجب من أن تخفى هذه الاعتبارات التي طرحتها عن ملاحظة الناس حتى يومنا هذا، العجب الوحيد هو أن تطرأ اليوم أخيرا في ذهن واحد من الناس وتصبح موضوعا لفكره. أنا شخصيا أعتبر ذلك حقا نتاج مصادفة سعيدة وليس فضل موهبة استثنائية عندي، هي بنت الزمن وليست بنت الذكاء.
فأنت أولا إذا نظرت إلى الأمر على حقيقته؛ لوجدت أن هذه القرون الطويلة تختزل في نطاق صغير جدا؛ ففي هذه القرون الخمسة والعشرين - التي تحيط بها الذاكرة والمعرفة البشريتان - لن تستطيع أن تفرد أكثر من ستة قرون كانت خصبة في العلوم ومواتية لتقدمها. إن للزمن فيافيه وقفاره مثلما لأصقاع الأرض، ونحن لا نستطيع أن نعد عن حق إلا ثلاث ثورات وفترات ذروة في الفلسفة: الأولى بين اليونان، والثانية بين الرومان، والثالثة بيننا نحن أمم أوروبا الغربية، ولن تزيد الفترة المقيضة لكل واحدة منها عن قرنين من الزمن. أما العصور الوسطى للعالم فلم تكن خصبة في إنتاج محصول وفير وغني من العلوم، وليس ثمة ما يدعو إلى ذكر العرب والسكولائيين الذين محقوا العلوم برسائلهم العديدة في الزمن الوسيط أكثر مما أضافوا إلى وزنها. جملة القول: إن السبب الأول لهذا التقدم الهزيل في العلوم يعود إلى ضآلة الفترات الزمنية التي كانت مواتية للعلم. (81) ثمة سبب آخر مهم وقوي لعدم إحراز العلوم إلا تقدما قليلا: فليس بالإمكان أن تتقدم في المضمار كما ينبغي إذا كان الهدف نفسه لم يوضع على نحو صحيح؛ فالهدف الحقيقي والمشروع للعلوم هو أن تزود الحياة الإنسانية باكتشافات وموارد جديدة، والكثرة الكاثرة من الناس لا يعرفون شيئا عن هذا، إن هم إلا مأجورون ومحترفون، ربما يتصادف أن صانعا ما ذا عبقرية حادة وطموح للشهرة يكرس نفسه لعمل اختراع جديد، والذي يكون دائما على نفقته الخاصة، غير أن الغالبية من الناس لا يحدثون أنفسهم بأن يزيدوا حصيلة العلوم والفنون؛ فهم لا يأخذون من الحصيلة المتوافرة لديهم ولا يلتمسون منها إلا ما يمكنهم أن يحولوه إلى استعمال حرفي أو ربح أو صيت أو ما شابه ذلك من المزايا، وإذا كان في هذا الحشد واحد يسعى إلى المعرفة بحب صادق ولأجل المعرفة فحسب، فحتى هذا سنجد أن هدفه هو التأملات والمذاهب المتنوعة وليس البحث الصارم الجاد عن الحقيقة، وحتى إذا كان هناك من هو باحث أكثر كدا عن الحقيقة فهو أيضا سوف يضع أمامه وصفا للحقيقة من شأنه أن يرضي عقله وفهمه في تقديم علل للأشياء معلومة أصلا، لا وصفا يقود إلى نتائج جديدة ونور جديد من المبادئ.
45
وهكذا إذا كانت «غاية» العلوم لم توضع بعد على نحو صحيح، فلا عجب أن يكون الناس قد أخطئوا في أمر «الوسائل». (82) ومثلما أن الناس لم تحدد غاية العلوم وهدفها كما ينبغي، فإنهم حتى لو حددوا ذلك تحديدا جيدا، إنما يتخذون إليه طريقا خاطئا ومسدودا تماما. وإنه لمن أعجب العجب لمن يتأمل الأمر أن لا يعنى أحد ولا يهتم بفتح طريق ممهد ومعبد للفهم الإنساني ينطلق من الحواس عبر التجربة المنظمة المحكمة، بل يترك كل شيء نهبا لغيوم التقاليد ودوامة الجدل، أو لتقلبات الصدفة ومتاهاتها والخبرة العارضة غير المنظمة، فليتأمل أي منا بتيقظ وعناية في نوعية الطريق الذي اعتاد البشر اتخاذه في بحث أي شيء واكتشافه؛ فإنه - بدون شك - سيلحظ أولا منهجا بسيطا غير علمي للكشف مألوفا جدا للبشر، وهو لا يعدو أن يكون كالتالي: عندما يعد أي شخص نفسه للكشف فإنه يستعلم عن كل ما سبق أن قيل في الموضوع ويلم به، ثم يضيف تأملاته الخاصة، ويقلب الأمر في ذهنه، ويستنطق روحه الخاصة ويهيب بها أن توحي إليه. هذا منهج يفتقر إلى أي أساس، وتذهب به الآراء كل مذهب.
وآخر قد يستدعي المنطق لكي يعينه في الكشف، والمنطق لا صلة له بهذا الغرض سوى صلة اسمية. فالمنطق لا يكتشف المبادئ والقضايا الرئيسية التي تتألف منها الفنون، بل يكتشف فحسب تلك القضايا التي تبدو متسقة معها.
46
فإذا ما أخذك الفضول وألححت عليه في السؤال عن براهينه على المبادئ أو القضايا الأولى، فلن تجد من المنطق سوى رد واحد معروف جيدا، وهو أن يحيلك ثانية إلى الإيمان وقسم الولاء الذي ينبغي أن يؤدى لمبادئ كل فن على حدة.
لا تبقى هناك إلا الخبرة المحضة، والتي إذا جاءت بنفسها سميت مصادفة، وإذا جيء بها سميت تجربة، ولكن هذا النوع من الخبرة ليس أكثر من مكنسة بدون رباط (كما يقولون) مجرد تحسس، شأن أناس في الظلام يتحسسون حولهم عساهم أن يجدوا طريقهم الصحيح، بينما الأفضل لهم جدا أن ينتظروا ضوء النهار أو ضوء شمعة ثم يتقدموا. على النقيض من ذلك يبدأ النظام الصحيح للخبرة بإيقاد ضوء، ثم بكشف الطريق في هذا الضوء، منطلقا من التجربة الممنهجة المنظمة لا التجربة الملفقة العشوائية، ومنها يستنبط المبادئ، وعلى هذه المبادئ يؤسس تجارب جديدة، ذلك أنه حتى «كلمة الرب» لا تؤتي فعلها في الخليقة إلا بمنهج.
لذا فلا عجب للناس إذا كانت العلوم قد تعثرت عن إكمال الطريق؛ فلقد ضلت سبيلها إذ تركت التجربة وهجرتها تماما، أو أوقعت نفسها في شرك متاهاتها وجعلت تتخبط في حلقات مفرغة، في حين أن المنهج المنظم القويم يتخذ جادة آمنة خلال غابة الخبرة تفضي إلى رحبة المبادئ. (83) ولقد زاد في تعقيد المشكلة بدرجة عجيبة اعتقاد أو تصور عميق الجذور على أنه متغطرس ومؤذ، مفاده أن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفا ومكبا على التجارب وعلى الأشياء الجزئية التي هي موضوعات للحس ومقصورة على المادة، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي في العادة جهدا في البحث، وأنها لا تليق بالتأمل ولا بالحديث ولا بالممارسة، وأنها مفرطة في الدقة. وهكذا لم يعد الطريق الحق مهجورا فحسب بل معترضا ومغلقا. لم يقتصر الأمر على تجاهل التجربة وإساءة تطبيقها، بل تم نبذ التجربة وازدراؤها. (84) إن توقير العصور القديمة، ونفوذ الرجال الذين حظوا بمكانة كبيرة في الفلسفة، والإجماع العام؛ كل أولئك أمور عاقت الناس عن التقدم في العلم، وأسرتهم إلى حد كبير. أما عن الإجماع فقد تناولته فيما سبق. «وأما عن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القدم فهو رأي عقيم تماما ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كبر العالم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يعتبر «قدما» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء. فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنين فإنهم بالنسبة للعالم محدثون صغار. ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكما أنضج مما نتوقعه من الصغير - بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة وتنوع ما رآه وسمعه وتأمل فيه - فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرته واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات. وينبغي أيضا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرا من الأشياء الجديرة بأن تلقي الضوء على الفلسفة قد اكتشفت وأميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زخرت بها أيامنا. إنه ليكون مخزيا حقا للجنس البشري أن تستكشف أصقاع العالم المادي - الأرض والبحر والنجوم - وتستظهر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدود العالم الفكري محصورة في الكشوف الضيقة للقدماء.»
أما عن السلطة فهي من الجبن بحيث تولي ثقة غير محدودة لمعلمين معينين بينما تغمط الزمن حقه. الزمن هو معلم المعلمين؛ ومن ثم فهو سلطة كل سلطة؛ فقد صدق من أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة. لا عجب - إذا - إذا كانت قيود القدم والسلطة والإجماع قد كبلت قوى البشر فصاروا عجزة (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربة الأشياء ذاتها. (85) ليس الإعجاب بالقدم والسلطة والإجماع فقط هو ما أجبر جهود الإنسان على أن تقف قانعة بالكشوف التي تم تحقيقها، بل الإعجاب أيضا بالأعمال نفسها التي صارت بحوزة الجنس البشري. فمن يستعرض مختلف الأشياء والأدوات الرائعة التي جمعتها الفنون الميكانيكية وأدخلتها من أجل خدمة البشر، فمن المؤكد أنه سيكون أميل إلى الإعجاب بثراء الإنسان منه إلى الشعور بفقره، غير مدرك أن الملاحظات الأصلية وعمليات الطبيعة (التي هي أشبه بالروح أو المبدأ المحرك لكل تلك الأشياء) ليست بالكثيرة ولا العميقة، وأن بقية الأمر تعزى - ببساطة - إلى الصبر وإلى خفة ودربة حركة اليد والأداة. ولنأخذ صناعة الساعات كمثال: إنها بالتأكيد شيء حساس ودقيق، وتبدو تروسها محاكية للمدارات السماوية ولضربات قلب الحيوانات في حركتها الموصولة المنتظمة، ورغم ذلك فهي تعتمد على مبدأ طبيعي واحد أو مبدأين.
Bog aan la aqoon