Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Noocyada
الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحث هذين الأمرين المذكورين وإخراجهما إلى واضحة النهار، فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة. وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافة من الهواء (وهي كثيرة جدا) فهي أيضا مجهولة تقريبا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليل وعرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرا الأدوات المستخدمة لتوسيعه وشحذه، أما التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة؛ حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم التجربة على الطبيعة والشيء ذاته. (51) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرا (ثابتا) وواقعا فيما هو عابر ومتغير، غير أنه أفضل لنا أن نشرح الطبيعة إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدما أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة. إن المادة - وليست الصور - هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل المحض
23
وقانون هذا الفعل؛ أما الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين الفعل. (52) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جبلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور ملكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل انطباعاتها. (53) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فتصدر عن الطبيعة الخاصة لعقل كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئة متنوعة ومركبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرا وأشد إفسادا لصفاء الفهم. (54) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدا كبيرا وصاروا على إلف كبير بها. إذا عمد مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذج واضح لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة تماما لمنطقه، فجعل منها شيئا خلافيا ولا خير فيه. ولدينا أيضا جماعة الخيميائيين، فقد شيدوا فلسفة خيالية ضيقة النطاق للغاية، قوامها بضع تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت
Gilbert
24
فبعد أن كرس جهدا كبيرا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته؛ توجه للتو إلى تلفيق فلسفة كاملة أخضعها لموضوعه الأثير. (55) أما أكبر الفروق بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن بعض العقول أقدر وأميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات بينها؛ فالعقول المدققة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل فارق طفيف، أما العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات وأعمها والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عرضة للشطط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه. (56) ثمة عقول أشربت بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقول أخرى مغرمة بالجديد، وقلما نجد من يقف موقفا متوازنا فلا يبخس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري الإسهامات الوجيهة للمحدثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكاما مستبصرة بل مجرد ولوع بالقديم أو بالجديد، أما الحقيقة فينبغي ألا تلتمس في حظوة زمن بعينه، فهذا أمر غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيء أزلي. علينا إذا أن نجتنب مثل هذه الأهواء ونعيذ فكرنا أن ينساق إليها. (57) إن ملاحظة الطبيعة والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهم وتشتته، في حين أن ملاحظة الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يذهل الفهم ويوهنه. وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس
25
بغيرها من الفلسفات. فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفلت البنية إلى حد كبير، بينما المدارس الأخرى منبهرة بمشاهدة البنية فلا تكاد تنفذ إلى بساطة الطبيعة. ينبغي إذا أن نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبا وشاملا في الوقت نفسه، ونتلافى العيوب المذكورة لكل من الطريقتين والأوهام التي تنجم عنها. (58) كذا فليكن الحذر في الملاحظة، الكفيل بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام التي تنشأ في معظمها من غلو في التركيب أو شطط في التقسيم، ومن التحيز لعصور تاريخية بعينها، ومن كبر موضوعات الملاحظة أو صغرها.
Bog aan la aqoon