Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Noocyada
18
ويقول في موضع آخر: «من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه يروقه ويسره) أن يقسر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددا وثقلا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقة تسول له أن يزيحها وينبذها؛ لكي يخلص - بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق - إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابا وجيها ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!» وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه؛ حيث تجد الناس - وقد استهوتهم هذه الضلالات - يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق - رغم أنها الأكثر والأغلب - فيغفلونها ويغضون عنها الطرف، على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم؛ حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس. وفضلا عن ذلك وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة؛ حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية.»
19 (5) بيكون و«التجربة الفاصلة»
يلح بيكون على ضرورة الاهتمام خلال مراحل الاستقراء بالحوادث الأساسية؛ للوقوف بكيفية خاصة على «التجربة الفاصلة» أو «التجربة الحاسمة»؛ لأنها بمثابة العلامة التي توضع على مفترق الطرق لتوجيه المسافر إلى الجهة التي تؤدي به إلى مقصوده. فعندما يكون الباحث المجرب أمام حلول محتملة لمسألة ما، فإن التجربة الحاسمة هي تلك التي تفصل في الأمر وتدل على الحل المطلوب. يقول بيكون في الشذرة 36 من الكتاب الثاني من الأورجانون الجديد: «في بحثه عن طبيعة ما قد يقر الذهن في محله ولا يمكنه أن يقرر إلى أي من طبيعتين (أو أكثر) ينبغي أن يعزو سبب الطبيعة محل البحث؛ إذ إن طبائع كثيرة تقع معا في العادة، هناك تنهض الشواهد الفاصلة بتبيان أن تصاحب إحدى الطبائع مع الطبيعة محل البحث هو تصاحب دائم لا انفصام له، بينما تصاحب الأخرى متقطع وغير دائم، من شأن ذلك أن يحسم البحث فتؤخذ الأولى على أنها السبب بينما ترد الثانية وترفض، بذلك يقدم هذا النوع من الشواهد ضوءا كثيفا وسلطانا عظيما بحيث ينتهي ويتم فيها مسار التفسير. قد تقع الشواهد الفاصلة ببساطة؛ إذ توجد بين شواهد مألوفة طويلة العهد، إلا أنها في الأغلب تكون جديدة ومستخدمة عمدا ومطبقة خصيصا، وتتطلب دأبا واجتهادا للكشف عنها.»
20
ويضرب بيكون أمثلة كثيرة لذلك، منها ظاهرة سقوط الأجسام التي يمكن أن تكون خاصية ذاتية (داخلية) للأجسام، كما يمكن أن تكون راجعة إلى كون الأرض هي التي تجذبها، فإذا قلنا بالاحتمال الثاني نتج من ذلك أن الأجسام سيضعف انجذابها إلى سطح الأرض بابتعادها عنه، فإذا استطعنا أن نثبت هذا بالتجربة حسمنا في الأمر، ويمكن القيام بهذه التجربة الحاسمة بوضع ساعة تعمل بالثقل في أعلى الصومعة مرة وفي أسفلها مرة أخرى، فإذا لاحظنا أنها تتحرك ببطء في أعلى الصومعة منها في أسفلها كان ذلك دليلا على أن سقوط الأجسام راجع إلى جاذبية الأرض، لا إلى خاصية ذاتية في الأجسام نفسها.
21
هذه الإشادة بالتجربة الحاسمة التي تمكن الباحث من ترجيح فرض على آخر تعد استباقا بيكونيا كبيرا، وسيكون لها شأن كبير في التفكير العلمي فيما بعد، ومن أشهر التجارب الفاصلة في تاريخ العلم حملة إدنجتون التي أيدت نظرية أينشتين في الجاذبية: كانت نظرية أينشتين تفضي إلى نتيجة مفادها أن الضوء لا بد أن ينجذب نحو الأجسام الثقيلة (مثل الشمس) تماما كما تنجذب الأجسام المادية، وكنتيجة لذلك أمكن تقدير أن الضوء القادم من نجم ثابت بعيد يبدو موقعه الظاهري قريبا من الشمس سوف يصل إلى الأرض من اتجاه من شأنه أن يجعل النجم يبدو مبعدا قليلا عن الشمس، وبعبارة أخرى: إن النجوم القريبة من الشمس ستبدو كما لو كانت قد تحركت قليلا مبتعدة عن الشمس وعن بعضها البعض، هذا شيء يتعذر على الملاحظة في الظروف العادية ما دامت هذه النجوم غير مرئية بالنهار بفعل التوهج الهائل للشمس، غير أن من الممكن أثناء كسوف الشمس أن نأخذ صورا فوتوغرافية لهذه النجوم، فإذا أخذنا صورة لنفس المجموعة من النجوم أثناء الليل أمكننا مضاهاة المسافات في كلتا الصورتين والتحقق من الأثر المتوقع.
22
لقد صاغ أينشتين تنبؤا شديد التحديد وقابلا للملاحظة ومترتبا على نظريته عن انحناء الضوء، وهو تنبؤ من شأنه إذا كذبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويجهز عليها. (6) القيم في العلم
Bog aan la aqoon