Awail Kharif
أوائل الخريف: قصة سيدة راقية
Noocyada
إذ قال: «لن تدعي والدك يفرق بيننا يا سيبيل ... إنه لا يحبني ... من السهل ملاحظة ذلك.» «كلا، لن أدعه يفعل.» توقفت فجأة عن الحديث. ثم تابعت قائلة: «ربما يبدو ما سأقوله مروعا ... لا ينبغي أن آخذ ما يقوله والدي في أي شيء مسلما به. لن أدعه يؤثر علي. لقد أفسد حياته وحياة أمي أيضا ... أشعر بالأسى على والدي ... إنه غافل تماما ... ويقلق كثيرا ... دوما على أشياء لا تهم.»
جلسا في صمت لفترة طويلة، وكانت سيبيل قد أغمضت عينيها واستندت عليه، حين سمعته فجأة يقول هامسا في غضب: «تيريز اللعينة تلك!» فرفعت بصرها ورأت على حافة التل فيما وراء شواهد القبور المتآكلة، تيريز بجسدها الممتلئ، متسلحة بشبكة صيد الحشرات وحقيبة ظهر تزخر بطعام الغداء. كانت واقفة وقد باعدت ساقيها كثيرا، تحدق فيهما بعينيها الرماديتين الغريبتين بتعبير خبيث هزلي. ومن ورائها في نصف دائرة وقف جيش صغير من أطفال بولنديين متسخين كانت قد جندتهم لمساعدتها في جمع الحشرات. عرفا أنها كانت قد تعقبتهما عن قصد للتجسس عليهما، وأنها ستتظاهر بلطف بأنها عثرت عليهما بمحض الصدفة.
سألها جان هامسا في غضب: «هل نخبرها؟» «كلا ... لا تخبر أحدا بأي شيء في دورهام.»
انكسر السحر الآن وبدا الغضب على جان. هب واقفا وهو يصيح في تيريز قائلا: «اذهبي وطاردي حشراتك العتيقة ودعينا وشأننا!» أدرك أن تيريز كانت، مثل أمها، تراقبهما من ناحية علمية، كما لو أنهما زوج من الحشرات.
3
لم يكن آنسون رجلا خبيثا بطبعه أو حتى مقيتا بدرجة كبيرة؛ فلم تكن أنشطته المضطربة باسم الأخلاق نابعة من رغبة مكبوتة ومنحرفة بداخله في الرزيلة. في الواقع، كان رجلا ذا رغبات قليلة جدا؛ إذ كان إلى حد كبير رجلا تافها وسطحيا، تبنى القضايا الأخلاقية لأنها كانت ذات صلة بتقاليده ومن ثم كان ينبغي أن يشجعها. وفي نظر سابين، كان أسوأ حالا من شخص فاسق متحرر من القيود؛ كان شخصا أخرق، ولم يكن يتسم بالذكاء الشديد، رجل لم يكن يرى بنظرته المحدودة المباشرة سوى الجزء الضئيل من العالم الذي كانت الظروف قد وضعته فيه. فبعد مرور تسعة وأربعين عاما من تدقيق النظر، صار حسير النظر، وصارت الأشياء المادية التي تحيط به - منزله، ومكتبه، وطاولته، ومنضدته وقلمه - أشياء استثنائية ومبجلة بحكم وجودها باعتبارها أدوات نافعة في أكثر المجتمعات رفعة وكمالا في الوجود. ومع أنه كان يمتلك قدرا كبيرا من اللباقة الاجتماعية المعقدة، كان يفتقر حتى إلى مسحة من الدراية بالحياة، وهكذا كانت العادات والتقاليد والأعراف قد حولت حياته إلى حياة باهتة وذابلة، تفتقر إلى سمة المبادرة أو الفردية، وتنزلق عبر أخدود ضيق يتسم بالرتابة والملل. وربما كان هذا هو مبعث شعور سيبيل بالشفقة تجاهه.
ونظرا لتقديسه الشديد لعادات عالمه الرتيب الممل، كان يظل قانعا بل ولطيفا ما دامت كرامته لم تتعرض للاعتداء؛ وهي مسألة مقدسة ومعقدة شملت بيته وأصدقاءه وأوساط معارفه وأسلافه، وحتى الممتلكات الصغيرة التي سمح له والده بامتلاكها. غير أن هذه الكرامة كانت أيضا في حد ذاتها مسألة هشة، وعرضة للانهيار بسهولة ... وكأنها قوقعة رقيقة تحيط به وتحميه. وعكف هو على حمايتها بحماس صبياني مستميت. وفي حين أن كل تهديدات العمة كاسي وتوسلاتها لم تكن تدفعه إلى الإقدام على أي تصرف قاطع أكثر من اللجوء إلى المراوغة المضطربة، فإن تهديد أي من الأشياء التي كانت تقع في حيز كرامته كان يطلق العنان لكراهية غير متوقعة وبغيضة.
كان يكره أوهارا ربما لأنه أدرك أن الأيرلندي كان ينظر إليه وإلى عالمه بسخرية واستهزاء؛ وكان أوهارا وأمثاله من الأيرلنديين - المنتمين إلى الحزب الديمقراطي (حسبما ظن آنسون) ولذلك كان يعتبرهم حثالة البشر - هم من أطاحوا بالنموذج المثالي الهادئ الراسخ للحياة في بوسطن. وكان يكره سابين للأسباب نفسها؛ ومنذ أول لحظة كان قد قرر أن يبغض «ذلك الشاب دي سيون» لأن الشاب بدا قائما بذاته تماما، مستقلا عن تلك المقدسات، دون أي بادرة احترام تجاهها. كما أنه كان متحالفا تحالفا وثيقا مع أوهارا وسابين و«تيريز الغريبة الأطوار».
ساورت أوليفيا الشكوك بأنه كان يزداد حدة وهيسترية فقط في الأوقات التي يعصف به فيها الشك في أنهم يستهزئون به ويسخرون منه. وحينئذ كان يصبح غير مسئول عما يقوله ويفعله ... غير مسئول مثلما كان في تلك الليلة بعد الحفل الراقص. وأدركت أنه يوما بعد يوم تزداد شدة حساسيته بشأن كرامته، لأنه بدأ يفسر أصغر التلميحات باعتبارها هجوما على كرامته.
وما إن أدركت هذه الأمور، حتى بدأت تعامله دوما معاملة الأطفال، فتمازحه وتسايره حتى تحقق مرادها في النهاية، بثبات ويسر. ولقد اتبعت معه هذه الطريقة في المعاملة في مسألة تغيير أثاث المنزل. فعلما منها بأنه كان منهمكا في إنهاء الفصول الأخيرة من كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، اقترحت عليه أن ينقل منضدته إلى «غرفة الكتابة» النائية حيث ستقل المقاطعات التي تسببها له أنشطة الأسرة؛ واعتبر آنسون ذلك اقتراحا ممتازا، اعتقادا منه بأن زوجته تأثرت أخيرا بأهمية عمله وعظمته. حتى إنه ابتسم وشكرها.
Bog aan la aqoon