آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ، غير مبالين بالشقة البعيدة، والفيافي القاحلة، هازئين بالجوع والعطش، والحر والبرد، والنصب والجهد. إيمانهم وآمالهم وعزائمهم أوسع من كل صحراء، وأثبت من كل هول، وأحر من كل بيداء محرقة. تراهم في السبل يحملون أزوادهم راجلين بالليل والنهار لا يفكرون في شيء ولا يبالون بشيء إلا المقصد العظيم، والغاية الجليلة التي خرجوا إليها. إنه الإيمان الذي لا يتزعزع، والعزم الذي لا ينثني، والصبر الذي لا يقهر. •••
إن البصر والخيال ليريان هذه القوافل تشق البر والبحر والهواء شهورا متوالية لا تخلو ساعة من ليل أو نهار من قصاد الحجاز، حجاج البيت، وفود الأرض المقدسة يحملهم الشوق على طائرة أو باخرة أو سيارة أو على الأقدام.
يؤم هؤلاء الحجيج على اختلاف أقطارهم وألوانهم الأرض التي نشأ فيها دينهم، وعاش فيها نبيهم، وولد تاريخهم، ويقصدون القبلة التي يتجهون إليها على نأي الدار وبعد المزار، وتخفق لها قلوبهم، وتهفو إليها أفئدتهم.
يدخلون إلى هذه البقاع وقد جمعهم توحيد الإسلام، وربطت بينهم أخوته، وأخلصوا دينهم لله، وتجردوا من أزياء الأوطان وشارات الأقوام، سواء قريبهم وبعيدهم، ومشرقيهم ومغربيهم، وأسودهم وأبيضهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، فإنما هو التوحيد الخالص، والأخوة الجامعة، والقلوب المجتمعة، والمقاصد المتفقة، لا تشغلهم ديار ولا أهل، ولا تفرقهم منازع ولا عصبيات
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .
هنا الإسلام الحق الذي وحد الله، وسوى بين خلقه، وآخى بين عباده. إنك لا ترى أجساما، ولكن معاني يجمعها كلها توحيد الله وأخوة المؤمنين.
ولو ترى هذه الوفود طائفين بالكعبة ليل نهار، مصلين حولها صباح مساء، وتخيلت الجماعات الإسلامية من ورائهم متلاحقة متوالية، وقلوبهم ووجوههم إلى هذا البيت؛ لتمثلت الأمة الإسلامية كلها جماعة واحدة قائمة تصلي شطر البيت الحرام، وعرفت جلال هذا الدين، وعظمة هذا الحج، وحكمة هذه القبلة، وتوحد هذه الأمة، وتبينت غفلة المسلم الذي لا يبصر هذه الجماعة، ولا يدرك هذه الأخوة، ولا يقدر هذه الشعيرة، بل غفلة المسلمين جميعا حين لا يبلغون بالحج مقصده، ويسيرون به إلى غايته من التأليف بين المسلمين، والجمع بينهم، والائتمار فيه بما ينفعهم، والتشاور فيما يحزبهم، والعمل لما يسعدهم في دينهم ودنياهم. •••
وتمثلهم وقوفا في عرفات حاسرين خاشعين، ملبين داعين، تكاد تتفق خفقات قلوبهم اتفاق كلماتهم ونياتهم، تتمثل المسلمين كلهم في صعيد، والإسلام جميعه في موقف. قد اجتمعت أوطان المسلمين في هذه البقعة، وحشر تاريخهم في هذه الرقعة؛ أليست هذه الوقفة تجمع أوطان الإسلام جميعها؟ أليس هذا الاجتماع حلقة في سلسلة من التاريخ أولها وقوف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مع أصحابه قبل سبع وستين وثلاثمائة وألف سنة اتصلت بها حلقات لا تنقطع، وعرى لا تنفصم حتى يومنا هذا. هنا الإسلام حاضره وماضيه
Bog aan la aqoon