من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ، ويقول:
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ، ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة، وتسلح بالخلق الطيب، فلن يكون هذا الخلق سببا إلى إخفاقه، وسبيلا إلى خيبته أبدا. ربما تعتل الجماعة فينتصر المبطل، ويخذل المحق ، ويفتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكون شرعة في الأرض، ولا سنة من سنن الله.
ثم علة الجماعة لا تدوم، وليست الجماعات كلها عليلة، وما تزال الجماعات منذ ألفها الله وعلمها، وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن، أيدا لأنصار الحق، وعونا لأهل الفضيلة، وخذلانا لجند الباطل والرذيلة. ما زال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته، ويصدق وعده أنجح عملا وأكثر مالا من الضائع الكذاب سيئ المعاملة، وما زال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة، والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالردئ، والغالي بالرخيص، ما زال هذا التاجر أربح متجرا، وأملأ يدا، وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاش، الشره المخادع، أترى في هذا ريبا؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء، واسأل من تشاء، ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض، فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدق مالك الأرض فيما أنفق وما جنى، ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه؛ ليؤدي الأجرة في حينها، لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين، وأظفر بما يريد.
لا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة، موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن استقرض أقرض، وإن استعار أعير، له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار، ربما يتجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد، ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين، سل يا أخي الناس في كل قبيل، وطالع التاريخ في كل جيل.
على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسد الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل بر أمين صادق، وأمة يجد المخادعون فيها طريقا، ولكنها وعرة، ومذهبا ولكنه ضيق، ورواجا ولكنه قليل، وأخرى يتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجار، ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سننا، وتشرع في المخازي شرعا، تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وترد الأبرار الصادقين خائبين أينما توجهوا، مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين، فإذا أرادت الأمة أن تجعل الفساد سنة، فموتها دون غايتها، وزوالها قبل استقرار سنتها.
أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبسا، وملأ عليك العالم حزنا، وملأك على العالم سخطا، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة، فرأيت جماعة من خفاف الأحلام، صغار النفوس، شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا، فلما ملأت نفسك أسفا، وانقلب أملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطا متشائما، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، ووصمتها بهذه الوصمة.
إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضا لما وصفت، ذلك بأن الرزق فيها لا ينال إلا بالسعي والكد، والجهد والدأب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة، ولكن الرزق فيها يقسم بأيد قليلة، ويصرف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعم حتى يبلغ أمده. وكثيرا ما تفيل الآراء، وتطيش الأيدي بأهواء الساسة، ومنازع التحزب، على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون قاعدة العمل، وسنة الجزاء.
ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربى في عبوديتهم، وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه، وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذلك التوكل إلا احتقارا للكرامة، وازدراء بالخلق الفاضل، ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال، لم تهذبنا التجارب، ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسن السنن القويمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين.
فإن رأيت جورا في الدواوين، وظلما بين الموظفين، فهي علة زائلة، فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه، واعلم أن الظفر للحق، والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة، والهزيمة للرذيلة، وأنها للغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين. والسلام عليكم ورحمة الله.»
معدة قرقرت ثم استقرت
Bog aan la aqoon