84

Atyaf Min Hayat May

أطياف من حياة مي

Noocyada

الانتظار حوافر الزمن يا مي، وأنا دائما في انتظار، أنا دائما أنتظر ما لا أعرفه ويخيل لي في بعض الأحايين أني أصرف حياتي مترقبا حدوث ما لم يحدث بعد، وما أشبهني بأولئك المقعدين الذين كانوا يجلسون بجانب البحر مترقبين هبوط ملاك يحرك الماء!

أما الآن، وقد حرك الملاك البركة، فمن يلقيني في الماء؟ فإني أسير في ذلك المكان المهيب المسحور، وفي عيني نور، وفي قدمي عزم.

لدي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر، ولكن علي أن أبقى صامتا عنها، وسوف أبقى صامتا حتى يضمحل الضباب، وتنفتح الأبواب الدهرية، ويقول لي ملاك الرب: تكلم؛ فقد ذهب زمن الصمت، وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة، متى يا ترى تنفتح الأبواب الدهرية، هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟»

مي تعتذر عن الزواج

وقد عرض جبران وقتئذ في إحدى رسائله الزواج من مي، وهذا العرض - على ما يظهر - كان مفاجئا لها؛ لأنها وإن غزا الحب قلبها وأصبحت تشعر شعورا عميقا بأن جبران هو فتاها الوحيد وصديقها المختار، بل الحبيب المصطفى بين من عرفتهم من الأدباء والشعراء والمفكرين، فقد كان يخالجها الشك والتردد وكانت لا تصدق أن يأتي اليوم الذي تهجر فيه مصر إلى نيويورك؛ لأنها كانت تعيش ابنة وحيدة بين أبوين شيخين في القاهرة يحبانها كل الحب، ويحرصان على وجودها بينهما كل الحرص، ولا يستطيعان أن تفارقهما وتذهب بعيدة في بلاد تفصل بينها وبين مصر مسافات شاسعة؛ فكتبت إليه بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1921 تقول:

عزيزي جبران «لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من أنت وأين أنت، وكثيرا ما أنسى أن هناك شخصا، أن هناك رجلا أخاطبه، فأكلمك غالبا كما أكلم نفسي، وأحيانا كأنك «رفيقة في المدرسة». إنما كان يطفو على تلك الحالة المعنوية عاطفة احترام خاص، لا توجد عادة بين فتاة وفتاة، أهي المسافة وعدم التعارف الشخصي والبحار المنبسطة بيننا هي التي كانت تلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال؟ قد يكون، غير أن مكانتك في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت منذ نشأتها كأنها فطرية بديهية، لم تنتظر الوقت لتقوى، ولا التجربة لتثبت.

فوصلت الرسالة وقرأتها، فأحجمت إزاء بعض الكلمات خوفا مما تجر إليه، ومرت أسابيع ستة أو سبعة دون أن أكتب؛ لأني كنت أقول لنفسي: يجب أن أقف هنا، ولكنا لم نقف، بل خطونا خطوة، بل قفزنا قفزة!

أنت قيدتني «مذنبة» في دفترك، وقمت تشكو لأني كنت كلما حدقت في شيء أخفيه وراء القناع، وكلما مددت يدا أثقبها بمسمار، نعم فعلت ذلك، فعلت متعمدة، تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تعزلها يد الغيب، وتمدها بين فكرة وفكرة، وروح وروح، وصرت أحرف المعاني، وأمسخ الأشياء، وأضحك عند الكلمات التي تملأ العين دموعا!

وهل كان لدي من وسيلة أخرى لأحولك عن «هذا الموضوع»، وأذكرك أني وحيدة أبوي؟ وقد لا يكون في العائلة الغربية إلا ولد واحد، فيقذفون به من إنجلترا إلى الهند، أو فتاة واحدة فترحل من فرنسا إلى الصين بلا جلبة ولا ضوضاء، ولكن أين نحن من هؤلاء ونحن شرقيون؟!

تعمدت ذلك خصوصا لأوفر على نفسي عذابا أنا في غنى عنه، ولأتحامى كل كلمة تقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكا وعلقما في السنوات الماضية، ففهمت ما أريد، وإنما على غير معناه الحقيقي، وفهمت على وجه لم أقصده. ثم سطت عليك الكبرياء - كبرياء الرجل - فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا كصديقين مفكرين، نسيت أن الموضوع الآخر جاء عرضا، وما دام أنه لم يكن الأصل فقد كان له أن يتلاشى دون أن يؤثر في علاقتنا الأدبية الفكرية، أم صدق القائلون إن صداقة الرجل والمرأة رابع المستحيلات!

Bog aan la aqoon