الرسالة الأولى
أحبت «مي» جبران خليل جبران، وأحب جبران ميا، دون أن يرى أحدهما الآخر أو يجتمعا معا مرة واحدة؛ فقد عاش في أمريكا طول حياته، ولم يخرج منها إلا حين وفاته سنة 1931 حيث نقلت جثته إلى بشرى بلبنان، وعاشت هي طول حياتها في مصر لم تسافر قط إلى أمريكا، وكان أول تعارف لهما عن طريق النقد والكتابة الأدبية، ثم تطور ذلك إلى صداقة فحب عميق، فرغبة في الزواج لولا بعض الظروف العائلية.
كان أول تراسل بينهما حين أرسل إليها مؤلفه «الأجنحة المنكسرة» في أواخر أبريل سنة 1913، وكان عمره وقتئذ 29 عاما، وكانت هي في نحو الخامسة والعشرين؛ فقد قرأت هذا الكتاب ككاتبة أديبة، ورأت أن تبدي رأيها في فصوله، فأرسلت إليه خطابا كان أول خطاباتها إليه، وقد انتقدت أول شيء تهتم به المرأة وهو الزواج، فقالت: «إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران، أنا أحترم أفكارك، وأجل مبادئك لأنني أعرفك صادقا في تعزيزها مخلصا في الدفاع عنها، وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة، وأشاركك أيضا في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة، فمثل الرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشبان، متبعة في ذلك ميولها وإلهاماتها الشخصية، لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف، حتى إذا ما انتخبت شريكا لها تقيدت بواجبات تلك الشركة العمرانية تقيدا تاما. أنت تسمي هذه سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال، وأنا أقول نعم سلاسل ثقيلة، ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة «ما هي»، فإذا توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل إلى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء.
لم لا تستطيع المرأة الاجتماع بحبيبها على غير علم من زوجها؟ لأن باجتماعها هذا السري مهما كان طاهرا تخون زوجها، وتخون الاسم الذي قبلته بملء إرادتها، وتخون الحياة الاجتماعية التي هي عضو عامل فيها.
عند الزواج تعد المرأة بالأمانة، والأمانة المعنوية تضاهي الأمانة الجسدية أهمية وشأنا، عند الزواج تتكفل المرأة بإسعاد زوجها، وعندما تجتمع سرا برجل آخر تعد مذنبة إزاء المجتمع والعائلة والواجب. ربما اعترضت على هذا بقولك إن الواجب كلمة مبهمة يعسر تحديدها في أحوال كثيرة، فليس لنا إلا أن نعلم «ما هي العائلة؟» لنجد الواجبات التي نفرضها على أفرادها، ودور المرأة العائلي هو أصعب الأدوار وأوضعها وأمرها!
إني أشعر شعورا شديدا بالقيود المقيدة بها المرأة، تلك القيود الحريرية الدقيقة كنسيج العنكبوت المتينة متانة أسلاك الذهب، ولكن إذا جوزنا ل «سلمى كرامة» بطلة الرواية - ولكل واحدة تماثل سلمى عواطف وسموا وذكاء - إذا جوزنا لها الاجتماع بصديق شريف النفس عزيزها، فهل يصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة أن تختار لها صديقا غير زوجها، وأن تجتمع بذلك على غير معرفة من زوجها، حتى لو كان القصد من اجتماعهما الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب (تعني المسيح)؟»
مي
هذا هو أول التعارف الكتابي بين «مي» و«جبران». وقد رد عليها مؤيدا وجهة نظرها، مقدرا صراحتها ولباقتها في نقدها، ثم أرسل إليها بعد ذلك كتابين: «المواكب» و«المجنون»، فكتبت إليه رأيها فيهما. ثم تعددت الرسائل بينهما، وتطور التعارف إلى إعجاب، ثم إلى صداقة، ثم إلى حب شديد بين أديبين شابين أودعا في رسائلهما كل ما يشعران من لهفة وولع وغرام. (4) قصة غرام
في سنة 1919 أصدر جبران خليل جبران كتابيه «المواكب» و«المجنون»، فكتبت مي عن «المواكب» مقالا ترددت فيه بين النقد والتقريظ، وبين الهجوم والاستسلام، وكان حبها له وقتئذ في الطريق لم يدق «الباب» بعد، أعني باب القلب. أو أنه دق هذا الباب، ولكنها أمسكت بمصراعيه؛ لأنها كانت تشعر بذاتها، وتعتد بنفسها كأديبة ناقدة قبل أن يسيطر الحب على القلب والقلم، فيحولها إلى أديبة معجبة محبة لأديب معجب محب، وإنسانة فنانة مغرمة بإنسان مغرم فنان.
كتبت تنقد هذين الكتابين، فمدحت بحساب، ونقدت وآخذت أيضا بحساب، فقالت في مدحه: «في المواكب كما في المجنون أكاد أتبين تأثير نيتشه، وإن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران أفندي لن تشبه أبدا ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة.
Bog aan la aqoon