كانت رسائل العقاد في أكثرها مملوءة بالشعر ، بل كان بعضها شعرا خالصا ليس فيه من النثر إلا «آنستي العزيزة مي!» وقد نشر طائفة منه في الجزء الرابع من ديوانه الذي أصدره سنة 1928. وأبدل فيه باسم «مي» اسم «هند» حين كان يضطر إلى ذكر الاسم في سياق الأوزان! أما «سارة» التي كان يحبها في الوقت الذي كان يحب فيه «مي» حبا روحيا، فيذكرها باسم مستعار أيضا هو «سعاد» أو «ليلى». وليس لنا أن نذكر اسمها الحقيقي الآن؛ لأنها ما تزال حية ترزق في باريس، وهي مسيحية لبنانية كانت تعيش في مصر، ثم سافرت إلى فرنسا منذ ثلاثين سنة وما تزال بها حتى الآن. وقد أرسلت صورتها إلى الأستاذ العقاد منذ خمس سنوات، وهي صورة تمثلها في سن الستين، ولكنها تحتفظ بذكريات الجمال والشباب وما تزال بها ملامح صورة لها صورها العقاد جالسة عن يمينه في شباب الحب الذي جمعهما في شباب العمر وربيع الحياة، واحتفظ بها مع الثانية في مكان خاص إلى وفاته!
مي وسارة
وقد كانت «مي» لا تعلم من شأن «سارة» شيئا، وكانت «سارة» لا تعلم من شأن «مي» إلا أن «عباسا» يعرفها معرفة أدبية، ويقدرها لعلمها وأدبها، ولكنها كانت تتبرم بزيارته لها حين تعلم أنه زارها، وكانت تجتهد أن تشغله عن زيارتها في اليوم الموعود، فيؤجل موعد زيارة «مي» مكتفيا بحديث التليفون. إلا اليوم الذي تعلن فيه «كنيسة الظاهر» عن أفلام الفانوس السحري، فلا اعتذار عن حفلتها، بل لا بد أن يذهبا معا إليها؛ لأنها الحفلة التي تقوم مقام الذهاب إلى السينما معا، وتتيح للحبيبين أن يقضيا وقتا سارا لا شبهة فيه ولا رقابة ولا رقباء، فتنعم فيه روحاهم بأنس الحب، ومتعة القرب ونجوى السرائر والوجدان.
وهنا نسأل «العقاد» كيف جمع بين هذين الحبين: «حب مي» و«حب سارة»، ويجيب عن هذا السؤال، فيقول: «إذا ميز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب!
وإذا أصبح النساء جميعا لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة فذلك هو الحب!
وقد يميز الرجل امرأتين في وقت واحد ، لكن لا بد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو في الدرجة، أو في الرجاء. فيكون أحد الحبين خالصا للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقا شاملا للروحين والجسدين، أو يكون أحد الحبين مقبلا صاعدا والحب الآخر آخذا في الإدبار والهبوط. أما أن يجتمع حبان قويان من نوع واحد في وقت واحد، فذلك ازدواج غير معهود في الطباع؛ لأن العاطفة لا تقف ولا تعرف الحدود، وإذا بلغت العاطفة مداها جبت ما سواها.»
ثم يعترف واصفا ما كان بينهما بصيغة المتكلم: «وقد كنت أحب «مي» حين التقيت بسارة لأول مرة في «بيت مريانا» بمصر الجديدة، أحببتها الحب الذي جعلني أنتظر الرسالة، أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، وكنا كثيرا ما نتراسل ونتحادث، وكثيرا ما نتباعد ونلتزم الصمت الطويل إيثارا للتقية، واجتنابا للقيل والقال. ولكننا في جميع ذلك كنا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسان تتلاقيان وكلاهما على جذوره وتتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق.
وكنت أغازلها، فتومئ إلي بأصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظرت إلى عينيها لم أدر أتستزيدني أم تنهاني، ولكنني أدري أن الزيادة ترتفع بالنفحة إلى مقام النشوز.
وكنا نتواعد إلى جلسة من جلسات الصور المتحركة في مكان لا غبار عليه «كنيسة الظاهر»، فنتحدث بلسان بطل الرواية وبطلتها، ونسهب ما احتملت الكناية والإسهاب، ثم نغير سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار.
وكنا أشبه بالنجمين السيارين في المنظومة الواحدة، لا يزالان يحومان في نطاق واحد، ويتجاذبان حول محور واحد، ولكنهما يحذران التقارب؛ لأنه اصطدام!» •••
Bog aan la aqoon