وكان صيف سنة 1935، فجاء إليها بعضهم يطالبها بثلاثمائة جنيه؛ لأن أرضها مرهونة، فطلبت أن تطلع على وثيقة الرهن، فأطلعوها وضيقوا عليها هذا الطلب حتى ضاقت بحالها واشتدت آلامها، وهي في شكواها وضيقها لا تصرح لأحد بما يثير في نفسها هذه الآلام. فأصيبت بمرض «الشعور بالاضطهاد»، وجسم بعضهم هذا المرض فكتب إلى أقاربها في لبنان ينبئهم بأن الآنسة «مي» أصيبت بالجنون! ويوصي بإرسالها إلى مستشفى العصفورية، فجاء أحد أقاربها فوجدها حزينة كئيبة ضيقة بالدنيا، فطلب منها هذا القريب أن تسافر معه إلى لبنان لتغير الهواء فأبت، فألح عليها كثيرا فقبلت وسافرت معه إلى بيروت، ونزلت في داره. وبعد أيام طلبت العودة إلى دارها بمصر، فأبى هذا القريب وأصر على بقائها بلبنان، فأصرت هي على العودة وهددت بالإضراب عن الطعام، فلم يأبه لهذا التهديد ولم يسمح لها بالسفر، فأضربت عن الطعام وبقيت أياما لا تأكل، فخاطب مستشفى العصفورية في نقلها إليه، وهو مستشفى إنجليزي للأمراض العقلية، فبعث المستشفى سيارة وممرضة وحملت إليه.
نزلت الآنسة «مي» مستشفى المجانين، فما أروع تلك الساعة التي سيقت فيها أديبة الشرق إلى هذا المكان، وما أشد ألمها في النفس وأفظع جرحها في القلوب!
أهكذا الدنيا؟ وهل هذا هو بلاؤها؟ وهذه عجيبتها الرائعة؟
الآنسة «مي» نابغة نساء الجيل وفخر الأدب الحديث، التي أهدت إلى العقول ثروة عقلية كبرى، وإلى النفوس جيلا كاملا من جمال النفس وسمو الشعور، تنزل بين المجانين، وتسلب من خير ما فاقت به الملايين؟
ما أقبح الحياة، وما أسوأ الدنيا، وما أظلم الأقدار!
والتفتت الآنسة «مي» حولها في مستشفى العصفورية، وتأملت حالها في هذا السجن العجيب، وقالت: أولم يجدوا لي سجنا أشرف من هذا السجن؟ ما أشد قسوة الإنسان على أخيه الإنسان!
وكأنما «مي» التي ملأت مصر وسائر بلاد الشرق أدبا وفضلا، وشهرة وفخرا، وتزاحمت النفوس على الإعجاب بها، وتغايرت الأسماع والقلوب على الإنصات إليها إذا خطبت أو تحدثت، كأنما «مي» هذه لا يعرفها إنسان ولم تمر ببال زميل من الأدباء أو أخ من الإخوان. وابتسمت «مي»، ويئست من الحياة ومن عدالة الإنسان، فأضربت عن الطعام، وصممت على الإضراب حتى تموت، وعبثا حاول الأطباء أن يصرفوها عن الإضراب، فأصروا أن يغذوها بالأنابيب من الفم والأنف، ومكثت على هذه الحال عشرة أشهر، ذاقت فيها أشد الآلام وضعفت بنيتها ونقص وزنها. وطلبت الآنسة أن تكشف عليها لجنة من كبار الأطباء، فاجتمعت وقررت أن لا شيء بها، وكتب الدكتور مارتان الطبيب الفرنسي تقريرا مطولا ينفي إصابتها بأي مرض من الأمراض، لكن إدارة المستشفى رأت أن تستمر في المستشفى مدة أخرى حتى تقوى بنيتها!
عجبت الآنسة من حظها العجيب، واتصل خبرها ببعض عائلات لبنان، وكان عيد الميلاد، فجاء أحد اللبنانيين المقيمين بفلسطين ليعيد عند أقاربه ببيروت، ويدعى «الخواجة غانم» وهو من كبار التجار، وفي الطريق مرت به السيارة بالعصفورية، فسأل السائق عما يسمعه عن الآنسة «مي» فأخبره أن إحدى قريباته وهي ممرضة في المستشفى أخبرته أن صحتها جيدة ولا شيء بها، وهي في هذا المستشفى كالمسجون البريء.
وصل «الخواجة غانم» إلى بيروت فاعتزم أن يحدث أقارب الآنسة في إخراجها، فاقبلهم وذهبوا معه لزيارتها فوجدوها جيدة الذاكرة سليمة العقل، فخرج من عندها وقد أقسم ألا يعود إلى فلسطين إلا بعد أن تخرج من هذا المستشفى.
بقي «الخواجة غانم» أربعين يوما يسعى حتى وفق في مسعاه، وخرجت الآنسة «مي» من المستشفى، ولكن لا إلى بيتها حيث تنعم بالحرية، بل إلى مستشفى للجراحة ببيروت.
Bog aan la aqoon