وسلم علي بيده، وخرج ومن ورائه أتباعه وقد تملكهم الخوف، ولكنه التفت إلي بعد خطوات قليلة وقال لي: «إذا حزبك أمر أو كانت لك حاجة عاجلة فاكتب إلي تجدني في عونك.»
وكان يسرني أن أقبل هذه الدعوة في السنين الكدرة التي أعقبت ذلك الوقت، وشعرت من تلك الساعة كأن أورزنكدز قد «تبناني» وأن لي نصيرا في مجالس «الأرباب» القادرين، وظللت إلى أن مات في أوائل عام 1937م لا يفارقني شعوري بأن أحدا لا يستطيع أن يمسني بسوء، وكان علمي في أحرج الأوقات أن في وسعي أن ألجأ إلى زميل ستالين ومواطنه ذي الوجه الصقري وأطلب إليه العون، كان علمي هذا يبعث في قلبي من الجرأة ما ليس في قلب أحد غيري.
وظلت هذه المحاضرة، التي ألقيتها على صديق عظيم من أصدقاء ستالين موضع حديث كل من في المصنع عدة أسابيع، وكان العمال في أثنائها يربتون على ظهري ويبدون سرورهم من صراحتي.
ولكنني استدعيت بعد إلقائها بيوم واحد إلى مكتب لجنة الحزب، وكان فيه قنسطنطين أكوروكوف أمين سر الحزب ومعه مدير المصنع إيفانشنكو.
فلما دخلت صاح الأمين بأعلى صوته: «ماذا أصابك يا كرافتشنكو؟ هل جننت؟ هل تعلم أن سرجو وجه إلينا أشد اللوم، وكاد يلقي بالمحابر في وجوهنا؟ لقد بقي لطيفا مسرورا حتى أثرته أنت، فأخذ يسبنا ويعيرنا بأنا قوم كسالى عاجزون وأنغال.»
وظللت أنا رابط الجأش، وأجبته بأني لم أنطق بغير الحقيقة، ألم يقل لينين نفسه إن الأعمال الصناعية تتطلب قيادة مسئولة موحدة؟ ولما كان لينين وأورزنكدز في صفي، فإن غضب أمين الحزب نفسه لا يصيبني بسوء، ولم يكن في وسع إيفانشنكو أن يحاجز نفسه عن أن يبتسم ابتسامة السرور والرضا عن موقفي؛ لأنه كان في خبيئة نفسه متفقا معي في آرائي مستاء من تطفل الحزب ونقابات العمال وتدخلهم في شئوننا.
هذا فضلا عن أنني لم يكن مقامي ليطول في المصنع إلا ريثما أفرغ من بعض الأعمال القليلة فيه، ثم أعود طالبا كما كنت من قبل، وكنت أحسب أن بعض الموظفين في إدارة المصنع سيسرهم خروجي منه.
وسر والداي وأخواي من هذا التحول في مجرى الحوادث؛ ذلك أن أمي بنوع خاص لم تكن في يوم من الأيام راضية عن بقائي رئيسا للعمال كما كان زوجها، وكانت في خبيئة نفسها مستاءة؛ لأن الثورة قد حالت بيني وبين مواصلة الدرس والتعلم، وها هي ذي الآن تراني أعد نفسي لأن أكون مهندسا وإن جاء ذلك الإعداد متأخرا بعض الشيء، وسرها هذا وأثلج صدرها، بل إن أبي نفسه ظهرت عليه علائم السرور والغبطة، وأخذ يستمع إلى ما وصفت به الرفيق أورزنكدز راضيا مسرورا.
وسمعته يقول ذات مساء لبعض الشيوخ المجتمعين في بيتنا حول إبريق الشاي: «سيكون ولدي مهندسا.» يقولها في فخر وإعجاب.
وقضيت عدة شهور في الاستذكار استعدادا لامتحان الدخول في المعهد؛ ذلك أن برامج إعدادية خاصة كانت تعد للشبان الموظفين المختارين ليكونوا من بين «الآلاف» الذين سيصبحون رجال الفكر السوفيتيين في مستقبل الأيام، فلما استهل عام 1931م التحقت بالمعهد الفني في خاركوف.
Bog aan la aqoon