ومهما يكن من أمر أولئك القوم فقد كانوا مقطوعي الصلة بالشباب من الصناع والفلاحين في أوكرانيا، فقد كان كل ما نعرفه من هذه الأحداث - إن كنا نعرف عنها شيئا على الإطلاق - أنها مأساة دموية مروعة في عالم قاص لا يكاد أحد يعرف مكانه، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى أصبحنا جزءا من هذه المأساة يدفعنا إليها حب المغامرة المتألق سناه أمام أعيننا، ولكن كان من وراء هذا التحمس الظاهر قلوب تحس بما يتهدد حياتنا من خطر فيقلق ذلك بالنا بعض القلق.
ووضع منا أربعة وعشرون - كلهم مجندون جدد من إقليم دنيبروبتروفسك - في سيارة نقل لتسافر بهم إلى بلاد البسمتشي، وأخذنا نغني ونقص القصص ونحن جد فخورين؛ إذ وقع علينا الاختيار لنكون من فرقة الفرسان المنتقاة التي تعسكر في جمهورية التركمان السوفيتية، لكنا تذكرنا في أثناء الليل ونحن في العربة المظلمة ما سمعنا أو قرأنا عن قسوة البسمتشي ووحشيتهم.
ثم سرى في قلوبنا حنين إلى أوطاننا، ودار حديثنا حول البنات اللاتي خلفناهن وراءنا، وحدث أن كان كستيا ابن عم حبيبتي أنا من بين هؤلاء المجندين، فأثار وجوده بيننا وما ينتظر من فراقي الطويل لها نار الحب الكامنة في قلبي.
ثم قدمنا إلى باكو مدينة «الذهب الأسود» وقضينا فيها بضعة أيام فأنسانا ما فيها من حركة دائمة كل ما كنا نفكر فيه من قبل .
لقد كان هذا المركز العظيم من مراكز الزيت خليطا عجيبا من الأساليب الشرقية والتنظيم الصناعي الحديث، وكان أهلها مزيجا من الروس والمغول، يلبس معظمهم ملابس الغربيين، ولكن الكثيرين منهم يرتدون ملابس أهل الشرق الأدنى الفضفاضة، ذات الألوان الكثيرة الزاهية والستر الضيقة الوسط التي تصل إلى الركبتين، والقبعات المستدقة المصنوعة من الفراء، والتي يلبسها سكان سهوب قزاقستان، وفي شوارع المسلمين الضيقة التي يتضوع منها أرج الطيب رأيت لأول مرة النساء المحجبات في مآزرهن السابغة المعروفة بالبرنجات، وقد غطين وجوههن بنقب مثلثة الشكل من شعر الخيل، فكن أشبه بالزكائب المتحركة لا تستبين لهن شكلا ولا سنا.
وستظل مدينة باكو أيضا مرتبطة في مخيلتي بمنظر البحر العظيم الذي وقعت عليه عيني لأول مرة، ذلك أن القادم من داخل البلاد ينطبع في ذهنه منظر الماء الممتد إلى ما وراء الأفق فلا ينسى هذا المنظر أبدا، وكانت رائحة الزيت تملأ جو المدينة كله، بل خيل إلي أن هذا الزيت قد امتصته وجوه سكانها كلهم وأيديهم.
وانضم إلينا في باكو مئات من المجندين جيء بهم من أنحاء متفرقة من البلاد، وعبرت بنا النقالة الصغيرة كلنتي بحر الخزر إلى ميناء كرستوفدسك، وقضينا بعض الوقت عند شاطئ البحر قبل أن نركب القطار إلى أسخاباد، ورأينا على رصيف الميناء أكواما من البطيخ الأصفر كأنها قنابل المدافع، وشاهدنا التركمان الضخام الأجسام السمر الوجوه، معظمهم ملتحون، وكلهم عراة الصدور والبطون، وعلى رءوسهم عمائم من مناديل ملونة، يقذفون البطيخ إلى رفاق لهم في سفينة قذفا منتظما، وهم يغنون أهازيج مطربة بصوت عال.
وكانت تبدو على أسخاباد - التي سميت فيما بعد استاليناباد - مسحة شرقية تكفي لأن تشبع رغبة الشباب في اجتلاء كل ما هو جميل، فقد كانت تخترقها شوارع ضيقة غير مرصوفة، تتلوى بين جدران عارية من اللون، خالية من النوافذ، تلتقي في ميادين مشتبكة صاخبة بعضها ذات سقف، وتتردد في أسواقها أصداء مطارق الأساكفة والحدادين وغيرهم من الصناع، يعملون في الهواء وهم جلوس مطويو السيقان، والنساء المسلمات في كل مكان كأنهن عمد قائمة لا شكل لها ولا لون، غير أنك كنت ترى أحيانا إحداهن ترفع طرف نقابها المتخذ من شعر الخيل، وتشير في دلال ظاهر إلى الروس السمجاء الأغبياء.
واستقبل القطار الذي أقلنا عند وصوله بالموسيقى والمظاهرات، ووقف العمال الذين جاءوا من مصانع القطن ووجوههم كالحة لا تستبين فيها معنى من المعاني، بينا كان الموظفون يلقون الخطب الرنانة يحيون بها الرفاق البواسل الذين جاءوا ليحرسوا الحدود من البسمتشي الأوغاد، ولم يكن لدي من الأسباب ما يجعلني أشك في أقوالهم وقتئذ، ولكنني فيما بعد تولتني الحيرة، فلم أدر لم لا يجند من أهل البلاد من يحرسون الحدود؟ ثم عرفت بعد ذلك أيضا أن الجيش الأحمر لم يكن في تلك البلاد إلا جيش احتلال في بلد أجنبي بالرغم من كل ما تلوكه الألسنة من دعاوى الزمالة.
وأقلتنا العربات من أسخاباد إلى المعسكر الكبير القائم على الحدود الإيرانية، والذي أقمت فيه طوال السبعة أو الثمانية الأشهر التالية، وأقمنا في الثكنات الطويلة الجرداء التي كانت مقرا للجنود في عهد القياصرة السابق.
Bog aan la aqoon