وصحت عزيمتي في هذا الوقت على أن أعمل في صناعة التعدين، ولعل لهذا صلة من نوع ما بهذا الفصل من حياتنا الزراعية الرخية الجديدة، فقد أصبحت أتحرق شوقا إلى أن أضرب بمعولي في باطن أمنا الأرض، وأن أبني على ظهرها وأتوسع، وما من شك في أن ما كنا نسمعه من المحاضرين في نادي كربينو لم يكن إلا عبارات عادية ليست بذات قيمة كبيرة، فهي لا تزيد على طائفة من القوانين يضعها الحزب الشيوعي ليستنهض بها همم العمال، ولكني كنت أرى في كل لفظة منها دعوة قوية إلى الجد والعمل.
وقال الخطيب ذات ليلة في مستهل الخريف: «أيها الرفاق، إن بلدنا في حاجة إلى الفحم وإلى المعادن وإلى الزيت وهي أعصاب الحياة في المستقبل، وأنا أدعو كل من كانت الثورة حبيبة إلى قلبه أن يذهب إلى المصانع والمناجم؛ ذلك أن جمهوريتنا السوفيتية في أشد الحاجة إلى أيدي الصناع القوية، فمناجم الفحم في حوض الدنتز مثلا تحتاج إلى الآلاف من الرجال.»
ونظرت إلى سينيا ونظر هو إلي، وأدرك كل منا أن صاحبه قد صحت عزيمته على ما صحت عليه عزيمة صديقه، وإن لم ينطق أحدنا بكلمة واحدة عن عزمه هذا.
ولما عدت إلى المنزل وأبلغت أهلي أني اعتزمت الذهاب إلى مناجم الفحم في حوض الدنتز حزن لذلك أبي وبكت أمي بكاء صامتا، وقالت لي: إني لا أزال غلاما وإني سأجد كثيرا من العمل ينتظرني في مستقبل الأيام، ولكنهما لم يحاولا قط أن يثنياني عن عزمي، وقضت أمي بضعة أيام تعد لي الثياب، ثم حزمتها وعلائم الحنو بادية على وجهها.
وأرسلنا إلى منجم من مناجم الفحم بالقرب من ألجفرفكا في إقليم ألشفسك، وكان هذا الإقليم من أقدم أقاليم الفحم في حوض الدنتز، ولكنهم أخذوا وقتئذ يوسعون دائرته كثيرا، وقضينا ليلتنا الأولى في ثكنات طويلة مظلمة، نام فيها مئات من الناس على أسرة من ألواح خشبية عارية، من طبقتين تعلو إحداهما الأخرى، وكانت الروائح الكريهة تنبعث من أجسام الناس المكدسة في الثكنات، ومن الطعام الفاسد والدخان الرديء، فلا نكاد نطيقها وأخذ بعض عمال المناجم القذرين يلعبون بأوراق قذرة، ويتبادلون أقبح الألفاظ في ضوء الفتائل الزيتية الخافت.
ولكن الغلامين القادمين من الدنيبر استغرقا في نوم عميق لما نالهما من التعب في أثناء سفرهما الطويل في قطار مزدحم بالركاب، فلما استيقظنا في الصباح لم نعثر لحقائب ملابسنا على أثر، فقد سرقت ونحن نائمان، ولم يبق لنا إلا الملابس القذرة التي سافرنا ونمنا وهي على جسمنا، وأخذنا نطوف بمحلة المعدنين، ولكن طوافنا لم يدخل السرور على قلبينا، فقد كانت هذه المحلة زقاقا طويلا قذرا تمتد على جانبيه أكواخ عتيقة وثكنات جديدة أقيمت في غير نظام، وكان يغمر المكان كله جو خانق من تراب الفحم، وسرعان ما خبت في صدرينا نار الحماسة التي كانت تتقد فيهما وتدفعنا إلى أن نقيم بأيدينا «صرح الاشتراكية»، وكان لا بد من أن تمضى أسابيع وأسابيع قبل أن يعود إلينا ما بدأنا به رحلتنا من غيرة وحماسة.
وأرسل سينيا إلى منجم في قلب إحدى غابات البلوط، أما أنا فكنت أتعس الناس حظا، فقد كان المتعلمون منا قليلين؛ ولذلك أصر أحد موظفي نقابة العمال على أن أعمل في مكتب من مكاتب الإدارة، وهكذا تكشفت الصورة التي رسمتها لنفسي، صورة رجل يضرب بمعوله ومصباح التعدين مشدود إلى جبهته، عن حقيقة لم أكن قط أتوقعها، وهي أن أقبض على قلم للكتابة وجداول للعد والحساب.
وقضينا الشهور الأولى في ثكنة من الثكنات الضخمة القذرة التي حشد فيها القادمون الجدد، ثم حصلنا بعدئذ على حجرة في أحد الأبنية الصغيرة التي يقيم فيها المعدنون القدامى أو الدائمون، وما كدت أتعود تراب الفحم وظروف الحياة البدائية حتى زال ما كان في هذه الحياة من ملل وسآمة، وأصبح فيها شيء من الحماسة والمتعة، فقد ألفيت نفسي فيما يكاد أن يكون قطاعا مستعرضا من الهيئات الاجتماعية التي تتألف منها الدولة السوفيتية، أو كأن نماذج قد أخذت من جميع هذه الهيئات وجيء بها كلها في ذلك المكان.
وكانت الكثرة الغالبة فيه تتألف من الروس والأوكرانيين بطبيعة الحال، ولكنه احتوى أيضا على التتار والأرمن والصينيين وأهل القفقاس الجبليين وقازاق من سهوب سيبيريا، وكان من هؤلاء عدد قليل جاءوا كما جئت أنا وسينيا ليعملوا جادين في تصنيع البلاد، وأكبوا على عملهم جادين بحماسة وغيرة وطنية، أما معظمهم فقد جاءوا لأن الأجور التي يتقاضونها أجور عالية إذا قيست إلى مستوى الأجور في قراهم؛ ولذلك فإن آلافا منهم لم يبقوا إلا ريثما يقتصدون من هذه الأجور ما يكفي لشراء بقرة أو حصان أو بناء بيت جديد.
ذلك أن أهم ما كانت تعنى به الإدارة في تلك الأيام هو رفع أجور العمال حتى تتجاوز كل حد معقول.
Bog aan la aqoon