وكانت بابشكا من زمن بعيد تدخر كسرا من الخبز المجفف، وكانت من آن إلى آن تحمصها وتهديها إلى الدير الذي كانت تؤثره بها عن غيره، وإلى ملاجئ الأيتام، فلما أزفت الآزفة حمدنا لها حسن صنيعها، وادخرنا كل كسرة منها لأنفسنا، واختفى من بيتنا ضوء المصباح الدفيء المبهج، وخيل إلينا أن أيامه الحلوة قد أصبحت في خبر كان، وحلت محله ذبالة مغمورة في صحن زيت صغير، لم يكن لدينا وسيلة غيرها تضيء لنا ليالي الشتاء الطوال.
وفي هذا الضوء المضطرب الضئيل كنت أقرأ لجدتي بصوت عال من الكتب التي تحبها، وهي كتب نكراسوف وتولستوي وترجنيف، وكانت بين الفينة والفينة تعيد بعدي عبارة تعجب بها فيلهيها هذا عن سماع ما يتلوها من العبارات.
وبينا كنت ذات ليلة أقرأ لها مقالة من مقالات ترجنيف شعرت بيدها تتحسس يدي، وواصلت أنا القراءة، ولما استرخت قبضتها ظننت أنها استغرقت في النوم، وأوشكت أن أتسلل من الحجرة على أطراف أصابعي حتى لا أوقظها من نومها، ولكني نظرت إلى وجهها فرأيت عينيها مفتوحتين، ووجدتها ساكنة سكونا عجيبا، وشاهدت ابتسامة عذبة مطبوعة على شفتيها.
وصرخت قائلا: «بابشكا! بابشكا!» وأقبل من في الدار مسرعين.
وكان موت جدتي لأمي من الحوادث التي ظلت منقوشة في الصورة المرسومة في ذهني عن الثورة، وكانت هذه السيدة امرأة قوية الجسم حتى طحنتها رحى الجوع والبرد بثفالها، وظللت أنا وأسبريدونوف نطوف بالمدينة عدة ساعات حتى وجدنا قليلا من الأزهار النضرة ننثرها على تابوتها، فقد بدا لنا أن نقلها إلى مقرها الأخير بغير أزهار أمر لا يليق.
واستقر النظام السوفيتي في شمالي البلاد، أي في الروسيا الأصلية، بعد أشهر قلائل، أما في سائر البلاد وبخاصة في أوكرانيا، فقد دامت الحرب الأهلية عدة سنين، وكانت حربا وحشية جرت فيها الدماء وسادها الاضطراب، ولم تخل في معظم الأحيان من الفساد الطليق، وكانت السلطة في إيكترنوسلاف تنتقل من جماعة إلى أخرى، ثم تعود إلى الجماعة الأولى فيما لا يزيد على شهر واحد، وكثيرا ما كانت تتداولها الأيدي عدة مرات في الأسبوع، ولم نعد نحاول أن نذكر أي الجماعات تمثل السلطة العليا في الإقليم، أهي جماعة الحمر أم البيض أم الخضر، أم أتباع بتليوري، أم قوى هتمان اسكروبودسكي أم بنكومخنو أم جريجوريف، واحتل الألمان بلدتنا بضعة أشهر، ثم جلوا عنها، وجاءت بعدهم طوائف من الجنود المتنافسين، معظمهم في أثواب بالية ممزقة، وكلهم لا يقيمون وزنا لحياتهم ولا لحياة غيرهم، وأخذوا يتعاقبون على مدينتنا البائسة الهزيلة.
ولا تزال صور من تلك الأيام منقوشة في خيالي كأنها صحف مزقت من كتاب.
منها صورة جنديين يرتديان حلتين من حلل جنود القيصر ويمتطيان صهوة جوادين يندفعان في طريق بشكين الكبير بالقرب من بيتنا، يطاردهما فارسان صينيان يهز أحدهما سيفا والثاني بندقية، ويقف الفارس صاحب البندقية فجأة، ويصوب بندقيته ويطلقها، ويهوي أحد الجنديين الأبيضين عن ظهر جواده، ويقف الجواد فلا يتحرك، وينتظر زميله هنيهة لينظر ماذا جرى، فيتيح بذلك الفرصة للفارس الصيني الآخر أن يلحق به ويطعنه طعنة نجلاء، وهو يصيح بأعلى صوته، فيسقط الأول كومة من اللحم مضرجة بالدماء فوق الحجارة، وتبقى الجثتان المشوهتان لا يحركهما إنسان في هذا السكون المفاجئ.
وجئت أنا وكوتيا مرة أخرى إلى محطة جوريانوف في الطرف النائي من المدينة بعد أن سرنا مسافة على أقدامنا كنا نتجادل فيها جدالا عنيفا في موضوع كتاب نقرؤه، وكانت الليلة السابقة ليلة رهيبة لم ينقطع فيها إطلاق النار، وإن كان أحد من أهل المدينة لم يعرف من كان يطلقه ومن كان يطلق عليه، فلما وصلنا المحطة ألفينا جثث الموتى منتشرة فيها، ورأينا على القضبان قطارا مملوءا بالجنود الألمان، وعلى أرض المحطة كثيرا من الألمان في ثياب سميكة دفئة، يضحكون ويتنقلون بين جثث الموتى، ووقف إلى جانب كومة من هذه الجثث جماعة من الجند يأكلون الشطائر ويشربون القهوة، ويضع كل واحد منهم إحدى قدميه على جثة من الجثث ليستريح.
وأسمع في إحدى الليالي بعد أن مضى هزيع من الليل جلبة خارج بيتنا، فأهرول لأستطلع جلية الأمر، وأرى الأرض مغطاة بالثلج يتلألأ في ضياء القمر، ويطرق أذني نباح كلب في مكان ما، ولا أكاد أقف حتى يمر بي رجل ضخم الجسم ينطق بألفاظ الفحش كأنه ثمل، وقبل أن تمضي على ذلك بضع ثوان يجيء في أثره رجال كثيرون يلوحون بالخناجر والعصي والبنادق، وأبقى حيث أنا لحظة أنصت فيها إلى طلقات بعيدة، وصراخ يدوي في سكون الليل، فلما أصبح الصباح كان كل من في المدينة يتحدث عن هذه المطاردة، وعن بيلوشيكا صاحب القلنسوة البيضاء وزعيم اللصوص، الذي طارده الحرس الأحمر في أحياء المدينة سيرا على الأقدام، حتى التجأ إلى شارع منعزل فضيقوا عليه الخناق وقتلوه رميا بالرصاص.
Bog aan la aqoon