واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى وأنا أجتاز السنة التاسعة من عمري، وأصبحت الحياة فجأة ثائرة مضطربة، كلها جنود وخطب ودموع ومجد، وأحسست كأن الوجود كله قد استحال إلى يوم عيد أبدي لا ينصرم، ونسي معلمونا دروسهم وأخذوا بدلا منها يشيدون بذكر الوطنية، أخذوا كلهم يشيدون بذكرها عدا أفريشيف، وقادنا الأب مكسيم إلى الصلاة؛ لندعو الله دعاء حارا أن ينصرنا على الأعداء، وأخذت النساء يبكين ويضربن أكفهن حين رأين الأبناء والأزواج يؤخذون إلى ميدان القتال.
وبكت بابشكا أيضا مشاركة لهؤلاء النسوة في عواطفهن، أما جدي فكأنه خلق خلقا جديدا، فقد أصبح جسمه أكثر مما كان اعتدالا، وأضحت أوامره لأسرته أكثر انطباقا على قواعد الجندية، وكان يرتدي حلته الموجهة
3
الزرقاء-البيضاء في كل يوم تقريبا، وكان يخيل إليه أن كل أسبوع يمر ولا تقوم فيه مظاهرة لتأييد الحرب أسبوع ضائع، وكان من أقواله المأثورة: «وا أسفاه! لو أن القائد اسكبليف لم يمت لألقى على الألمان درسا لا ينسونه أبدا، إن الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا أن يصمدوا له!»
وطرق الباب طارق في يوم من أيام شهر أغسطس سنة 1914م على أثر عودتي أنا وجدي من رحلة لصيد السمك؛ وذهبت بابشكا لتفتح الباب وسمعناها نحن تصيح صيحة مضطربة تكاد الدموع تخنقها: «أندروشا! انظروا أيها الأطفال، ها هو ذا أندروشا نفسه!»
أجل، لقد كان أبي حقا، وكان أنيق الملبس، ولما أن خلع قبعته السوداء رأيت شعره مرجلا إلى الوراء على الطراز الحديث، وقد سوى لحيته فأصبحت كلحية الطبيب لا لحية الصانع، وكانت أقل سوادا من شعر رأسه، وبدا لي أنه أقصر قامة وأقل بهجة من الصورة التي احتفظت له بها في ذاكرتي، ولكنه كان إلى هذا أسهل منالا مني وأقرب إلى الآباء مما كان قبل، وسرني ذلك كل السرور، وأخذني أولا بيديه، وأمسكني على قيد ذراع منه، وأحدق بصره في وجهي وهو عابس، ولعله بذلك كان يختبرني، ولعلي نجحت في الاختبار، فلقد رفعني بيديه وأخذ يعانقني ويشهد العالم كله على أن ولده كان يشب قوي الجسم وسيم الوجه، وكان من حوله ينظرون إلينا والغبطة بادية على وجوههم كأني كنت من صنع أيديهم.
وكان سبب مجيئه أن القيصر أصدر عفوا عمن ارتكبوا جرائم سياسية من أنواع معينة ، وكان من بينهم أبي لحسن الحظ؛ فلما أطلق سراحه جاء ليرى أبويه وولده، واغتبط فيودور بنتليفتش وتاه عجبا بهذه الزيارة؛ وكانت غبطته حقيقية لا تصنع فيها، ولكنا لم نكد نجلس لتناول العشاء حتى عاد غضبه القديم على ولده الذي سبب للأسرة كثيرا من العناء، وطغى هذا الغضب على كل ما عداه.
وشرب جدي كوبا من الماء البارد، ورسم إشارة الصليب على صدره ثم بدأ يتناول الطعام، وكان هذا إيذانا لنا جميعا بأن نمد ملاعقنا إلى طبق السمك، وأخذنا نتحدث، واستطاع جدي أن يمسك لسانه برهة قصيرة يصغي فيها إلى أنباء الأسرة التي كان يلقيها أفرادها بالتناوب، ثم انطلق أخيرا يتحدث ويصارحنا برأيه فقال: «بالله قل لي يا أندراي، ما الداعي إلى هذا السخف كله؟ ولم تظل نزيل السجون كالمجرمين؟ أي شيء تريد؟ ألا تشعر بأن عليك واجبا لزوجك وأبنائك؟»
وأصغى أبي إلى هذا القول وهو صابر، ثم تجهم وجهه وأبرقت عيناه، ونفذت ألفاظه إلى قلبي، وزادها قوة على قوتها ما كان يصحبها من جد وحماسة، قال: «سأحدثك عما أريده يا أبي، وأرجو أن تفهم قولي؛ لأني أعرف فيك أصالة الرأي وأقدرها، إني أريد أن يعيش الناس أحرارا سعداء، وأريد أن يعيش الناس جميعا كما يجب أن يعيش الآدميون، وأريد أن أقضي على الاستبداد السياسي والاستعباد الاقتصادي، وثق يا أبي أني أتألم أشد الألم لما يقاسيه أبنائي الأعزاء، ولكن هذه الآلام التي يقاسيها جيل واحد ستجعل الأجيال المقبلة أعظم سعادة وأكثر مدنية من هذا الجيل.
لست أشك في أنك يا أبت ستفهم قولي هذا؛ لأنك رجل قوي الإيمان، توقد الشموع تكريما للشهداء والقديسين، فهل كان هؤلاء يسمحون لأزواجهم وأبنائهم أن يؤثروا فيهم، فيشتروا الضلالة بالهدى والرذيلة بالفضيلة؟ إن روسيا بلادنا المحبوبة تعيش في ظلام حالك، يستغل أبناؤها ويعمهون في ظلمات الجهالة، ولكن في وسعها أن تخرج من الظلمات إلى النور، ولا يكون فيها سادة وعبيد.»
Bog aan la aqoon