مشينا نحو الساعة ذراعا في ذراع، نتحدث عن نفسينا وعن العالم ثم عن نفسينا من جديد، فقد كانت هي كذلك آتية لتوها من اجتماع في مكان عبئ هواؤه، وأرادت أن تسترد نشاطها بالبرد القارس والهواء الذي يلمع كأنه البلور، أنبأتني أنها كانت في «دنيبروبتروفسك» لأول مرة، وأنها كانت مهندسة معمارية في مكتب للتخطيط الهندسي يتبع الحكومة، وكانت ترجح لنفسها أن يطول بقاؤها في هذا البلد، ولقد تخرجت منذ أربع سنوات في معهد الفنون «بخاركوف» حيث تخصصت في فن العمارة.
قلت لها في موضع من سياق الحديث: «ما أسعدني بلقائك، إني لأحس أن هذا اللقاء سيزدهر بصداقة صحيحة.»
فقالت مبتسمة: «وهذا ما أحسه أيضا، لكني أصارحك بأني لا أريد هذه النهاية حرصا عليك، فلو كنت عاقلا يا «فكتور أندريفتش» لجعلت هذا اللقاء الأول لقاء أخيرا.»
فأزعجتني هذه العبارة منها على الرغم من أنها ضحكت بعدها، فقد شككت للوهلة الأولى أن الأمر أخطر مما يبدو من طريقة حديثها، شككت أن يكون حديثها ذاك مشيرا إلى مأساة لها في حياتها الخاصة، فقد ابتسمت لكن ابتسامتها خلت من كل علامات المرح، وكمن في عينيها اكتئاب عجيب تفاعل مع جمالها منذ اللحظة الأولى فزاد أثره قوة على قوة.
قلت لها: «سأتعرض لكل خطر في سبيل صداقتك.» - «لكني أنذرك فاذكر نذيري.» - «لا بأس فسأذكره، لكن لا بد لك مقابل هذا أن تنبئيني عن نفسك أكثر مما أنبأتني، فمثلا ...»
فقاطعتني قائلة: «لا تسلني، نعم أنا متزوجة، وزوجي رجل طيب لكنه منكود الحظ، وكلانا نعيش تحت سقف واحد، وأعنى به عناية الأخت بأخيها، أما فيما جاوز ذلك فنحن زوج وزوجة بالاسم وحده، أنا لا أحبه ... وبهذا المعنى ... أنا مسرورة بلقائك، لقد استوحشت بوحدتي.» - «استوحشت بوحدتك؟ أنت؟ بكل ما لك من دار وعمل ناجح وجمال ...» - «أوه، إنني أعرف ناسا كثيرين، بل ربما كانوا أكثر عددا مما ينبغي، ومع ذلك فأنا أغبطك؛ لأن لك بيتا حقيقيا وأما، لقد مات أبي، وأمي تعيش في «كيف»، ولست أخلو من الغبطة لهذا، ففي هذه الأيام يمر علينا من الأحداث ما لا يجوز لأحد أن يتحدث عنها لأحد حتى لأمه، ثم أغبطك كذلك لما تعيش فيه من أوهام، إذ لا شك أنك شيوعي يخلص لمذهبه.»
قلت: «يستطيع الإنسان أن يكون مخلصا لمذهبه حتى بعد أن يطرح بعض أوهامه، لكن دعينا من السياسة الآن، حدثيني عن زوجك أكثر مما فعلت ...» - «أرجوك ألا تطلب هذا، فلو كنت حقا تريد أن تعاود رؤيتي فهنالك شرط واحد أشترطه عليك، وذلك هو أن تتصرف معي على فرض أنه غير موجود، والواقع أن ليس له وجود بمعنى الوجود الصحيح، لكني أعود فأنذر، إنك مليء بالأمل والإيمان، أما أنا فلا أمل لي ولا إيمان، فأنا من القافلة في ذيلها على حين أنك من الموكب في طليعته، وسيسهل عليك السير إلى أمام لو كنت في سيرك وحيدا.» - «لن أستمع إلى نذيرك هذا، وفي نيتي أن أراك كثيرا مهما كلفتني هذه الرؤية من ثمن.» وهنا افتعلت هيئة المرح ومضيت أقول: «لن أندم على صلتي بك حتى وإن لقيت في سبيل ذلك نيران الجحيم عذابا.»
فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت: «أسمعتك تقول نيران الجحيم؟ لست أدري شيئا عن نيران الجحيم، لكني أعرف كثيرا عن نيران هذه الحياة الراهنة، وأين منها نيران الجحيم، ما دامت هي تصيب الناس في حياتهم لا بعد أن يلحق بهم الموت.»
تركتها عند باب دارها بعد أن تم الاتفاق بيننا على اللقاء في المتنزه مساء السبت المقبل، واشتريت تذكرتين لحفلة موسيقية ممتازة كانت ستقام في ذلك المساء، وسيشترك فيها أعلام الفنانات من فرقة الرقص التمثيلي الموسيقي بموسكو، من أمثال «فكتورينا كريجر» و«جوليوين»، كان انتظار السبت عذابا أليما، ومع ذلك فقد اجتنبت لقاءها على طوار العربة العامة، وكان كلما آن وقت النوم من كل ليلة، فرحت لأن معناه أننا اقتربنا خطوة من موعد اللقاء المضروب.
ولكم سرني حين التقينا أن أدرك من ضغط يدها على يدي ومن تورد وجنتيها أن «إلينا» كذلك كانت تنتظر هذا اللقاء الثاني بصبر نافد، مشينا وتحدثنا ثم ذهبنا إلى مسرح الأوبرا، وكانت فيما يبدو من هزة الفرح بمثل ما نعهده في الطفل يوم العيد.
Bog aan la aqoon