At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Noocyada
بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهِمْ دِيْنَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحِيْنَ
وَقُوْلُ اللهِ ﷿ ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ﴾ (النِّسَاء:١٧١).
وفي الصَّحيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيْرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِيْنَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ (نُوْح:٢٤). قَالَ: (هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِيْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيْهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ، وَنُسِيَ العِلْمُ عُبِدَتْ). (١)
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: (لَمَّا مَاتُوا، عَكَفُوا عَلَى قُبُوْرِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيْلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوْهُمْ). (٢)
وَعَنْ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ قَالَ: (لَا تُطْرُوْنِيْ كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ) أَخْرِجَاهُ. (٣)
وَقَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ: (إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ). (٤)
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ قَالَ: (هَلَكَ المُتَنَطِّعُوْنَ - قَالَهَا ثَلَاثًا-). (٥)
فِيْهِ مَسَائِلُ:
الأُوْلَى: أَنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا البَابَ وَبَابَيْنِ بَعْدَهُ، تَبَيَّنَ لَهُ غُرْبَةُ الإِسْلَامِ، وَرَأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَتَقْلِيْبِهِ لِلْقُلُوْبِ العَجَبَ.
الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ فِي الأَرْضِ كَانَ بِشُبْهَةِ الصَّالِحِيْنَ.
الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيْءٍ غُيِّرَ بِهِ دِيْنُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ مَعَ مَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسِلَهُمْ!
الرَّابِعَةُ: قَبُوْلُ البِدَعِ مَعَ كَوْنِ الشَّرَائِعِ وَالفِطَرِ تَرُدُّهَا!
الخَامِسَةُ: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُلِّهُ مَزْجُ الحَقِّ بِالبَاطِلِ.
فَالأَوَّلُ: مَحَبَّةُ الصَّالِحِيْنَ.
وَالثَّانِي: فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالدِّيْنِ شَيْئًا أَرَادُوا بِهِ خَيْرًا؛ فَظَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَهُ.
السَّادِسَةُ: تَفْسِيْرُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ نُوْحٍ.
السَّابِعَةُ: جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ فِي كَوْنِ الحَقِّ يَنْقُصُ فِي قَلْبِهِ؛ وَالبَاطِلِ يَزِيْدُ.
الثَّامِنَةُ: فِيْهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ البِدَعَ سَبَبُ الكُفْرِ.
التَّاسِعَةُ: مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُوْلُ إِلَيْهِ البِدْعَةُ؛ وَلَوْ حَسُنَ قَصْدُ الفَاعِلِ.
العَاشِرَةُ: مَعْرِفَةُ القَاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ؛ وَهِيَ النَّهْيُ عَنْ الغُلُوُّ وَمَعْرِفَةُ مَا يَؤُوْلُ إِلَيْهِ.
الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَضَرَّةُ العُكُوفِ عَلَى القَبْرِ لِأَجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنْ التَّمَاثِيْلِ وَالحِكْمَةِ فِي إِزَالَتِهَا.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ القِصَّةِ وَشِدَّةُ الحَاجَةِ إِلَيْهَا مَعَ الغَفْلَةِ عَنْهَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ أَعْجَبُ العَجَبِ؛ قِرَاءَتُهُمْ إِيَّاهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيْرِ وَالحَدِيْثِ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِمَعْنَى الكَلَامِ، وَكَوْنُ اللهِ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوْبِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قَوْمِ نُوْحٍ هُوَ أَفْضَلُ العِبَادَاتِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُوْلُهُ عَنْهُ فَهُوَ الكُفْرُ المُبِيْحُ لِلدَّمِ وَالمَالِ.
الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيْدُوا إِلَّا الشَّفَاعَةَ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: ظَنُّهُمْ أَنَّ العُلَمَاءَ الَّذِيْنَ صَوَّرُوا الصُّوَرَ أَرَادُوا ذَلِكَ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: البَيَانُ العَظِيْمُ فِي قَوْلِهِ (لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ) فَصَلَوَاتُ اللهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بَلَّغَ البَلَاغَ المُبِيْنِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: نَصِيْحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلَاكِ المُتَنَطِّعِيْنَ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: التَّصْرِيْحُ بِأَنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ العِلْمُ، فَفِيْهَا بَيَانُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُوْدِهِ وَمَضَرَّةُ فَقْدِهِ.
العِشْرُوْنَ: أَنَّ سَبَبَ فَقْدِ العِلْمِ مَوْتُ العُلَمَاءِ.
(١) صَحِيْحٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ (٤٩٢٠)، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (٦٦٧/ ٨): (قِيْلَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ المَذْكُوْرَ؛ هُوَ الخُرَاسَانِيُّ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مِمَّا اسْتُعْظِمَ عَلَى البُخَارِيِّ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، لَكِنِ الَّذِيْ قَوِيَ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح جَمِيْعًا).
(٢) (إِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ) (١٨٤/ ١).
(٣) البُخَارِيُّ (٣٤٤٥) فَقَط دُوْنَ مُسْلِمٍ.
(٤) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (١٨٥١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ النَّسَائِيِّ (٣٠٥٧). وَهُوَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الصُّغْرَى (١٦٨١) عَنْهُ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵃ مَرْفُوْعًا. وَقَدْ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ ﵀ بِدُوْنِ ذِكْرِ رَاوِيْه هَكَذَا.
(٥) مُسْلِمٌ (٢٦٧٠).
1 / 142