Sirta Qasriyada
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Noocyada
ولما تسنم عبد العزيز عرش آل عثمان طفحت قلوب العثمانيين فرحا وسرورا، وتفاءلوا به خيرا، وجاءت السنون الأولى من ملكه محققة للآمال، مصدقة لذلك التفاؤل، مبشرة بحسن مستقبل الأيام ونهضة الدولة من حضيض الانحطاط.
وكانت فاتحة أعماله أن أخذ يرأس مجلس الوزراء كل مرة بنفسه في السر عسكرية فيقضي ليله ساهرا معهم على النظر في شئون المملكة الدقيقة، مهتما براحة رعاياه، الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من أسلافه.
وكانت العادة قد جرت في السراي كما لا يخفى أن تقدم والدة السلطان كل عام في أول شهر رمضان سرية إلى جلالة ابنها، فرغب السلطان عبد العزيز إلغاء تلك العادة، وإبدالها بتقديم جارية إلى امرأته السلطانة، ثم صوب اعتناءه إلى افتتاح المدارس المجانية لجميع الملل والنحل بقطع النظر عن الأديان والأجناس، وساعد كثيرا على انتشار العلوم والمعارف من ماله الخاص، وشاد المستشفيات الطبية والجمعيات الخيرية وغيرها من الأعمال المفيدة.
وخصه الله بمعرفة قدر الرجال، فانتقى من بين وزرائه اثنين هيهات أن يأتي الزمان بمثلهما، امتازا في دولة آل عثمان بالذكاء ودقة الفهم وشدة الوطنية والبراعة في السياسة، أعني بهما عالي باشا وفؤاد باشا؛ اللذين شهدت لهما رجال الغرب بالسبق والفضل، فساعدا السلطان كثيرا على إنهاض المملكة.
وكانت الملابس التركية باقية إلى ذاك العهد على زيها القديم، فأبدلها السلطان بالزي الأوروبي الحديث بعد أن نقحه كما يليق؛ إلا النساء، فقد بقين محافظات على «اليمشق والفراجية»، وإنما خففن كثيرا من كثافة المنديل، فصار شفافا يزيد الوجه حسنا وجمالا. واقتنى الوزراء والكبراء العربات الأوروبية، وجاءوا من عواصم أوروبا بالرياش الفاخرة والأمتعة الثمينة، وحدث بجملة القول في ذلك العهد ثورة تقليدية عظيمة للمعيشة الأوروبية، الأمر الذي سر كثيرين ممن كانوا قد تلقوا العلوم واللغات الأوروبية، وكانوا من دعاة الحرية والمدنية. وقد بلغ الفرح والسرور منهم حده لما تحققوا أن السلطان قد عزم على نسخ العادة القديمة وهي عادة التقيد ضمن حدود ملكه، وأنه عازم على تفقد البلاد المصرية أولا ترويحا للنفس، ثم على زيارة العواصم الأوروبية متفرجا ومستكشفا سر التقدم الأوروبي، ومستطلعا أسباب رقي الشعوب. فخيل لهم حينئذ أن تركيا قد بلغت أوج التمدن والفلاح، ووهموا أنه سيعود من السياحة في تلك البلدان منبع الثروة والفنون حاملا من المدنية لآلئ يقلد بها جيد عرشه، وناشرا أعلام الرقي والحضارة في كافة أرجاء مملكته المترامية الأطراف. وقد استصحب السلطان معه في تلك الرحلة وزير خارجيته فؤاد باشا المشهور وولدي أخيه مراد أفندي؛ ولي العهد وشقيقه عبد الحميد (السلطان المخلوع)، وسر الشعب من ذلك، وعدوه برهانا جديدا على دقة أفكار السلطان وسمو مبادئه، حيث قد جرت العادة أن يقصي السلطان أولياء العهد في قصور بعيدة يملؤها من النساء والسراري الحسان بعيدين عن جميع الناس جاهلين أحوال المملكة التي ستلقى مقاليدها إليهم . فكان استصحاب عبد العزيز لولدي أخيه دليلا على أنه يريد إفادتهما من مدنية أوروبا كي يحذوا حذوه بترقية المملكة العثمانية في معارج التقدم والفلاح من بعده، ولذا كان يوم سفره إلى باريس يوما حافلا مشهودا.
وقد أناب عنه في إدارة شئون المملكة الصدر الأعظم عالي باشا، وأطلق له حرية العمل في تدبيرها أثناء غيابه كما ترتئي حكمته، وكان مركز الدولة يومئذ حرجا؛ إذ ظهر فرقة من المشايخ الذين أعماهم التعصب، وانضم إليهم المعزولون من رجال السلطان عبد المجيد، فألفوا حزبا قويا لمعاكسة الحزب الجديد الذي سر من هذه الحركة المدنية الجديدة، ومن اندفاع السلطان إليها، وهذا الحزب هو الذي عرف باسم «تركيا الفتاة»، وقد خال للجميع يومئذ أن الظفر سيبقى لهذا الحزب (حزب الإصلاح) لو لم تمد النساء أيديهن الضعيفة القوية آخذا بناصر الحزب القديم الذي كان مبدؤه وشعاره «بقاء القديم على قدمه»، وللنساء في تركيا - كما في جميع أنحاء المعمور - نفوذ شديد، إلا أنهن في الشرق وراء الحجاب لا يمكن الوصول إليهن، ولكن قد أخطأ من قال إن لا نفوذ للنساء في الشرق.
ولما تقرر سفر السلطان في جلسة الوزراء رسميا قدم بعض كبار المشايخ استعفاءاتهم، فقبلها السلطان حالا، فاتخذ الحزب الديني ذلك إهانة لهم، وأما العظماء وغيرهم من نجباء الأمة فقد سروا من عزم السلطان، وعدوه أمرا سياسيا مهما، ولكن المشايخ كانوا بالعكس، فثاروا وحاولوا إحباط ذلك المسعى، فأقنعوا السلطانة والدته أن مصير ابنها إلى الهلاك إذا ظل صاغيا إلى حزب «تركيا الفتاة».
وحاولت والدته إقناعه بالعدول، فذهبت أتعابها أدراج الرياح، وإنما وعدها السلطان وعدا شافيا ألا يطيل تغيبه عن عاصمته أكثر من شهر. •••
ففي اليوم الرابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) لعام 1284 للهجرة ورد نبأ برقي من فارنا إلى فخامة الصدر الأعظم مبشرا بقدوم جلالة السلطان على يخته صباح غد عائدا من رحلته الأوروبية.
ولم ينشر هذا النبأ في أنحاء الأستانة حتى هب سكانها على اختلاف أجناسهم وأديانهم يستعدون للزينة والاحتفال برجوع مليكهم المحبوب، ولما نشر ضوء الصباح في الأفق سرادقه ركب الوزراء والعلماء والكبراء والقواد بواخر الشركة الخيرية، وساروا إلى لقاء جلالة السلطان عند فم البحر الأسود. وركبت والدة جلالته والسلطانة قرينته يختا ملوكيا مصحوبة بجميع الأميرات والسراري لاستقبال جلالته أيضا.
Bog aan la aqoon