قالت: «أوه، لا! ليس الأمر كما تتخيلينه؛ لقد خرجت شارلوت صباح اليوم. جاء زوجها واستلمها. كنا بصدد نقلها إلى مستشفى رعاية ممتدة في مدينة سانيتش، ومن المفترض أن يصحبها إلى هناك. قال إن سيارة الأجرة بانتظاره بالخارج، وبعدها تلقينا مكالمة هاتفية بأنهما لم يصلا إلى المستشفى قط! كانا في حالة انتشاء عندما غادرا. جلب لها مبلغا كبيرا، وأخذت تلقي به في الهواء! لا أعرف. لعلها أوراق نقدية، لكننا لا نعرف من أين حصلا عليها.»
سرت حتى البناية السكنية الواقعة في شارع باندورا؛ حسبت أنهما ربما عادا إلى البيت، ولعلهما فقدا تعليمات الوصول إلى مستشفى الرعاية الممتدة، ولم تكن لديهما رغبة في الاستفسار، وربما قررا الإقامة معا في شقتهما مهما كلفهما الأمر، وربما شغلا الغاز.
في البداية، لم أتمكن من العثور على البناية، وحسبت أنني ربما ضللت الطريق، لكنني تذكرت متجرا على أحد جانبي الطريق، وبعض البيوت. تغيرت البناية - هذا ما حدث - فقد طلي الجص باللون الزهري، وتم تركيب نوافذ جديدة كبيرة وأبواب فرنسية، وألحقت بها شرفات صغيرة ذات حواجز حديدية مشغولة، وطليت الشرفات الفاخرة باللون الأبيض حتى بدا المكان بأسره وكأنه محل لبيع البوظة. لا شك أنه شهد تجديدات من الداخل أيضا، ولا مراء أن الإيجار قد زاد، فلم يعد في مقدور أناس على شاكلة شارلوت وجوردي الإقامة فيه بعد الآن. تحققت من الأسماء الموجودة على الأبواب، وبالطبع لم أجد اسميهما؛ لا بد أنهما تركا المكان منذ فترة من الزمن.
بدا أن التغير الطارئ على البناية السكنية يحمل في طياته رسالة ما لي؛ رسالة جوهرها الاختفاء. علمت أن شارلوت وجوردي لم يختفيا فعلا - فهما في مكان ما، سواء أكانا على قيد الحياة أم فارقاها - لكنهما اختفيا بالنسبة إلي. وبسبب هذه الحقيقة - لا بسبب فقداني لهما في واقع الأمر - غمرني شعور بالأسى أسوأ وأخطر أثرا بكثير من أي إحساس بالندم شعرت به على مدار العام الماضي كله. كنت قد فقدت اتزاني. يجب أن أرجع إلى المكتبة كي تستطيع موظفتي الجديدة أن تعود إلى بيتها، لكنني شعرت وكأنني أستطيع أن أسير في طريق آخر بنفس السهولة؛ أي طريق. صلتي بالعالم أصبحت في خطر؛ هذا كل ما في الأمر. أحيانا تضعف صلتنا بالعالم وتكون عرضة للخطر، وأحيانا نكاد نفقدها، وتنكر الاتجاهات والشوارع معرفتها بنا، ويمسي الهواء شحيحا. أليس من الأفضل أن يكون لنا قدر نسلم له ثم يتملكنا شيء ما؛ أي شيء بدلا من تلك الخيارات الواهية والأيام المستبدة؟
تركت نفسي تنسل مني إلى خيالات بحياة أعيشها مع نيلسون. لو كنت قد فعلت ذلك بدقة متناهية، لسارت الأمور على هذا النحو.
يأتي إلى فيكتوريا، لكنه لا يهوى فكرة العمل بالمكتبة في خدمة العامة، فيحصل على وظيفة مدرس بمدرسة للبنين؛ وهي مكان للطبقة الراقية سرعان ما تحيله فيه قسوته التي تميز الطبقة الفقيرة وطباعه الفظة إلى شخصية محبوبة.
ننتقل من الشقة الكائنة في شارع داردنالز إلى بيت فسيح من طابق واحد على بعد بنايات قليلة من البحر ونتزوج.
لكن هذه هي بداية فترة من الوحشة. أصبح حبلى، ويقع نيلسون في حب أم واحد من طلابه، بينما أهيم أنا عشقا بطبيب مقيم بالمستشفى أثناء المخاض.
نتجاوز أنا ونيلسون كل هذه التعقيدات وننجب طفلا آخر. نكتسب صداقات وأثاثا وطقوسا جديدة، ونتردد على عدد كبير جدا من الحفلات في مواسم بعينها من العام، ونتكلم بانتظام عن بدء حياة جديدة في مكان ما بعيد حيث لا نعرف أحدا ولا يعرفنا أحد.
ونتباعد ونتقارب مرارا وتكرارا.
Bog aan la aqoon