62

Asraar Macluumaad

أسرار معلنة

Noocyada

كانت المكتبة تخلو من الزوار لبضع ساعات في بعض الأحيان، وبعدها عندما يأتي أحدهم، كان يسأل عن كتاب تذكره من أيام مكتبة مدرسة الأحد، أو من خزانة كتب جدته، أو ربما تركه منذ عشرين عاما في فندق أجنبي. وعادة ما كان العنوان منسيا، لكن السائل كان يقص علي القصة. يحكي الكتاب قصة تلك الفتاة الصغيرة التي تسافر إلى أستراليا مع أبيها للتنقيب عن الذهب الذي يزعمان أنهما ورثاه، أو عن المرأة التي أنجبت طفلا بمفردها في ألاسكا، أو عن السباق بين واحدة من السفن الشراعية القديمة وأول سفينة بخارية في أربعينيات القرن التاسع عشر.

أوه، حسن! أردت أن أستفسر فحسب.

وكانوا يغادرون المكتبة دون أن يلقوا نظرة على ما تزخر به من كنوز.

عدد من الناس كانوا يهللون بامتنان قائلين لها: «يا لها من إضافة عظيمة للمدينة!» وكانوا يتصفحون الكتب لنصف الساعة، وربما لساعة، قبل أن يبادروا بإنفاق 75 سنتا.

الأمر يتطلب وقتا.

عثرت على شقة من غرفة واحدة تحتوي على مطبخ صغير ملحق بها، في بناية قديمة بزاوية تعرف باسم «داردينلز»، وكان الفراش يطوى في الجدار، لكنني لم أكن أجشم نفسي عناء طيه على أية حال؛ لأنني لا أستضيف أحدا. وبدا الكلاب غير آمن بالنسبة إلي، فكنت أخشى أن يقفز الفراش على حين غرة من الجدار أثناء تناولي وجبة العشاء المكونة من حساء معلب أو بطاطس مطهية في الفرن. قد يقتلني على الفور. كنت أيضا أترك النافذة مفتوحة دوما؛ لأنني ظننت أنني أشم نفحة من رائحة غاز مسرب حتى بعد إطفاء الشعلتين والفرن. ولما اضطررت إلى فتح النافذة بالبيت وباب المكتبة لإغراء الزبائن بالدخول، كان من الضروري أن أتشح بسترتي الصوفية السوداء دوما، أو مبذلي الأحمر القصير (وهو الثوب الذي ترك ذات مرة أثرا ورديا خفيفا على كل مناديل زوجي الذي هجرته وملابسه التحتية). كنت أجد صعوبة في خلع هذه الملابس، التي تسليني وتخفف من شعوري بالحزن، حتى يتسنى لي غسلها. في أغلب الأوقات كنت أشعر بالنعاس وعدم الشبع، وبرعشة في جسدي.

مع ذلك، لم يتمكن مني اليأس؛ فقد جاهدت نفسي لإدخال تعديل على حياتي، وعلى الرغم من كل الندم الذي كنت أشعر به كل يوم، كنت فخورة بهذا التعديل. شعرت وكأنني خرجت للعالم أخيرا بتغيير جديد وحقيقي. كنت أجلس إلى المكتب، وأستمر في احتساء قدح القهوة أو الحساء الأحمر الخفيف لساعة كاملة. كنت أستمر في مسك القدح بكلتا يدي ما دام أنه يكسبني شيئا من الدفء، وكنت أقرأ ولكن دون هدف أو استغراق. كنت أقرأ عبارات عشوائية متناثرة من الكتب التي كنت دوما أنوي الاطلاع عليها، وعادة ما كانت تبدو تلك العبارات مرضية بالنسبة إلي، أو مراوغة، أو محببة جدا، لدرجة أنني لم أستطع أن أتخلى عن كل الكلمات المحيطة بها، ولم أقدر على منع نفسي من الاستسلام لحالة غريبة. كنت أتقلب ما بين اليقظة والحلم، معزولة عن الناس جميعا، ولكن واعية طوال الوقت بالمدينة نفسها التي بدت مكانا غريبا.

هي مدينة صغيرة هنا على الحدود الغربية للبلاد؛ مناطق صغيرة للاحتيال على السياح. واجهات محل تيودور والحافلات ذات الطابقين وأوعية الزهور، والعربات التي تجرها الخيول؛ كلها أشياء تكاد تكون مهينة، إلا أنه كان هنالك أيضا ضوء القمر المنعكس على صفحة مياه البحر والممتد إلى الشارع، والمسنون الأصحاء القليلو العدد الذين يستمتعون بالنسيم وهم يمارسون رياضة المشي اليومية بطول المنحدرات التي يعتليها نبات الرتم، والبيوت الرثة الهيئة المكونة من طابق واحد والغريبة بعض الشيء بأشجار الأروكاريا وشجيرات الزينة في حدائقها. تزهر أشجار الكستناء بحلول الربيع، وتحمل أشجار الزعرور البري المزروعة بطول الشوارع أزهارا حمراء وبيضاء، والشجيرات ذات الأوراق الزيتية تنبت ثمارا وردية اللون لا يرى المرء مثيلا لها أبدا في المناطق النائية. حدثت نفسي أنها أشبه بمدينة في قصة خيالية، كالمدينة الساحلية في واحدة من القصص التي وقعت أحداثها في نيوزيلندا في تسمانيا، لكن ثمة طابعا أمريكيا شماليا ملحا في المشهد. كثير من الناس على أية حال وفدوا إلى المدينة من وينيبيج أو ساسكاتشوان. في فترة الظهيرة تفوح رائحة وجبات الغداء من البنايات السكنية الفقيرة؛ فهم يقلون اللحم ويسلقون الخضراوات؛ وجبات غداء من المزرعة تطهى في منتصف النهار في مطابخ صغيرة وضيقة.

كيف كان يتأتى لي أن أعرف ما أحبه كثيرا؟ لا شك أنه لم يكن ذلك الذي يسعى إليه أي تاجر جديد - أي الجلبة والنشاط اللذين يحييان الأمل في تحقيق النجاح التجاري. لكن الرسالة التي أرسلتها لي المدينة مفادها أنها «تخلو من النشاط والحركة». وعندما لا يمانع من يفتتح متجرا من سماع مثل هذه الرسالة، فالسؤال يطرح نفسه: ما الذي يحدث؟ فالناس يفتتحون المحلات بغية بيع بضاعتهم، ويعقدون الآمال على أن ينشغلوا بأعمالهم حتى يتسنى لهم توسعة محلاتهم، فتزداد مبيعاتهم، ويصيبون ثراء، وفي نهاية المطاف لا يضطرون إلى دخول المحل مطلقا. أليس هذا بصحيح؟ ولكن هل ثمة من يفتتح محلا على أمل أن يكون له ملاذا، فيحيط نفسه بالأشياء التي يقيم لها وزنا أكثر من غيرها - الحكايات الطويلة أو أقداح الشاي أو الكتب - ولا يفكر في شيء إلا أن يعلن إعلانا صريحا عن موقفه؟ سيمسي جزءا من البناية ومن الشارع، وجزءا من خريطة المدينة بالنسبة إلى الناس جميعا، وفي النهاية يصير جزءا من ذكريات الجميع. سيجلس ويحتسي القهوة في منتصف النهار، وسيخرج الحلي المبهرجة إبان عيد الميلاد، وسيغسل النوافذ في الربيع قبل عرض البضاعة الجديدة. المحلات بالنسبة إلى هؤلاء لا تختلف عن الأكواخ في الغابات بالنسبة إلى غيرهم؛ مجرد ملاذ ومبرر.

وبالطبع، يستوجب الأمر وجود بعض الزبائن؛ فالإيجار يحين موعد سداده، والبضاعة لن تكفي لتغطية تكلفتها. لقد ورثت ثروة صغيرة مكنتني من القدوم إلى المدينة هنا وافتتاح المكتبة، ولكن إذا لم يحقق الأمر رواجا تجاريا إلى حد ما، فلن أصمد إلى ما بعد الصيف. أعي ذلك تماما. شعرت بسعادة غامرة إذ شرع المزيد من الناس يتهافتون على المكتبة مع تحول الجو إلى الدفء أكثر فأكثر، وبيع المزيد من الكتب، وبدا أن بإمكاني الصمود. كان من المقرر منح جوائز في المدارس على هيئة كتب بنهاية الفصل الدراسي؛ مما جعل المدرسين يقصدون مكتبتي بقوائمهم من الكتب وثنائهم وتوقعاتهم اليائسة بالحصول على خصومات. كان الذين يزورون المكتبة لتصفح الكتب يشترون بانتظام، وما لبث بعضهم أن تحولوا إلى أصدقاء لي - مع اختلاف طبيعة صداقاتي هنا؛ حيث كان يسعدني تبادل أطراف الحديث يوما بعد يوم مع أناس لم أعرف أسماءهم قط. •••

Bog aan la aqoon