ولما مرض الأمير نعيم بالحمى التيفوئيدية خطر للأمير عاصم أن يهاجمه مع الأميرة أخته بضربة تكون آخر نقماته، فاتفق مع سنتورلي واستدعيا ماري جوتيه تلغرافيا من فرنسا لكي تخدم الأمير في مرضه وتعنى به جدا، آملين أنه متى صحا من خبل الحمى ورأى ماري تحوم حول سريره معتنية به تزداد قيمة في عينيه، فإذا التمست منه أن يتزوجها فقد لا يمتنع لما هو مشهور به من طيب القلب، وحينذاك يكشفان أمر ماري ويطلعان العالم على تاريخ حياتها، فيعاب الأمير بأن زوجته مومس وتعاب الأميرة نعمت بأن زوجة أخيها مومس، وهذا انتقام عظيم.
فقالت الأميرة نعمت محرقة الأرم: يا له من غادر خائن! إني لأنتقم منه شر نقمة ... - ولكن خلافا نشأ بينه وبين سنتورلي أفسد عليهما مشروعهما الأخير، وكان سببا لحصولي على سلاح أقوى من سلاح الأمير عاصم أحاربه به وأرد كيده إلى صدره. وتحرير الخبر أنه لما كانا يتفاوضان بأمر هذه المكيدة الأخيرة كنت كعادتي أسمع أقوالهما عن السطح - كما قلت لكم - فاختلفا على قيمة مكافأة سنتورلي لأجل المكيدة الأخيرة، فالأمير عاصم أبى أن يعده بمكافأة، وسنتورلي أبى أن يأذن لقريبته أن تدخل بيت الأمير نعيم ما لم يوعد بمكافأة، فتهدده الأمير برسالتي المعهودة له؛ لأنها إذا أعلنت وشغلت النيابة بتحقيق أمرها وقع سنتورلي مثلي تحت المسئولية العظمى، ولكن سنتورلي ليس جاهلا مثلي، فإنه لم يسلم تلك الرسالة للأمير عاصم إلا وفي يده سلاح أمضى من سلاح الأمير.
فاشرأبت أعناقهم ليسمعوا المزيد من الأسرار، فاستمر أحمد بك بحديثه قائلا: نعود الآن إلى ما كان قبل كل هذه الحوادث التي مرت ... لما كان المغفور له والدكم الأمير إبراهيم مريضا مرض الموت، وكان الأمير نعيم في باريس، كتب الأمير عاصم توصية بإمضاء المرحوم مقلدا خطه، وكان قد أمضى أسابيع يمارس تقليده حتى أتقنه وصار مشابها له أكثر المشابهة، ودس تلك الوصية بين أوراق المرحوم، ولما توفي - غفر الله له - ظهرت تلك الوصية المزورة بين أوراقه وعمل بها، وقد وافقتما عليها حينئذ بكل سلامة نية كأنها خط أبيكما نفسه، ولو طعنتم عليها لاكتشفتم تزويرها، على أن الأمير عاصم كان يعلم جيدا أنكما تثقان به تمام الثقة، ولا تسيئان الظن به، فاجترأ على التزوير، وبموجب هذه الوصية استوهب ثلث تركة المرحوم.
فقالت الأميرة: يا له من خبيث خائن! كنا نحسبه أخا؛ ولهذا لم يصعب علينا قط أن أبانا ملكه ثلث ثروتنا. - كلا يا سيدي، لم يملكه أبوكما سوى بعض أفدنة ومنزل، وهاكم وصية المرحوم بخط يده، كتبها بنفسه قبل وفاته وتاريخها متأخر عن تلك الوصية المزورة.
ودفع أحمد بك الوصية للأمير، فدنت الأميرة نعمت إليه وجعلا يقرآها إلى آخرها، فدهشا وقال الأمير: أين كانت مخبوءة إلى الآن؟ - مع سنتورلي يا سيدي، والظاهر أن هذا اللعين كان شريكا للأمير عاصم في تزوير الوصية الأخرى أو عالما بها، ولما توفي المغفور له والدكم عثر اتفاقا أو بعد البحث على هذه الوصية بين أوراق المرحوم، فأخفاها لكي يتهدد بها الأمير ويبتز منه الأموال بواسطتها، ولكن الأمير لم يضطره إلى إظهار هذا السلاح في كل ما مضى، إلى أن اختلفا أخيرا على أجرة المكيدة الأخيرة ، وكنت ليلتئذ على السطح أسمع شجارهما، ولما خرج سنتورلي تتبعته إلى أن استفردته في مكان منحرف عن أنوار الشارع، فاعترضت في سبيله ورششت في وجهه حفنة من الرمل الناعم وصرعته وأخذت هذه الوصية من جيبه ومضيت، وهكذا انتقل سلاح سنتورلي ضد الأمير عاصم إلى يدي.
ومن ثم صرت أفتكر في هل أفشي أسراره، وأعلن مكايده؟ ولكني بقيت خائفا أن يفشي خبر جريمتي، ففكرت في أن أختلس منه تلك الرسالة فلم أهتد إلى طريقة لذلك؛ لأنه شديد الحرص عليها، وكيف يغفل عنها وهي سلاحه ضدي وضد سنتورلي؟!
واتفق أني في تلك الأثناء ذهبت إلى عزبة ق. لقضاء مهمة زراعية لسيدي الأمير نعيم، فاجتمعت بالشيخ حسن النعمان وجرنا الحديث إلى ذكر الصبي يوسف الذي كان عنده وأخذه الأمير نعيم ثم فقد مع الأميرة جوزفين، فخطر لي أن أتحقق أمره، فسألت الشيخ حسن: أما كان معه شيء حين دفعته الداية له؟ وبعد سؤالات مختلفة فهمت أن هذه الحقيبة الجلدية كانت معلقة في عنقه كتعويذة، وقد ألبسها الشيخ حسن لابنه فأخذتها وفتحتها، ومن حسن الحظ وجدت فيها الإقرار بخط الداية عائشة التي ولدت الأميرة نعمت والأميرة جوزفين، وادعت أن ولديهما ولدا ميتين.
فحملق الكل في أحمد بك، وتناول الأمير الحقيبة وأخذ منها الورقة وقرأها وترجمها للإفرنسية لتفهمها جوزفين؛ لأنها لم تكن تفهم العربية جيدا، فدهش الكل أي اندهاش وصرخت جوزفين: إذن يوسف ابني! ويلاه! أين هو؟ أين نجده يا نعيم؟ - هدئي روعك يا مالكة قلبي، بعد برهة يأتي يوسف إلينا مع عروسته. - وا قلباه! وا حبيباه! أعندك هو؟ - نعم، أول أمس حظيت به يا جوزفين اتفاقا، كأن الله أبى إلا أن يجعل سعادتنا كاملة وستعرفين قصته.
وأما الأميرة نعمت فأصبحت كالمجنونة تقول: وا فرحاه! ألي في الوجود ابنة؟ إني لا أصدق! هل أراها قبل أن أموت؟ هل أقبل خديها؟ هل أتنشق شعرها؟ كلا كلا! لا أظن أن الله يسبغ علي هذه النعمة وأنا خاطئة ...
فقاطعها أحمد بك قائلا: بل لا بد أن تريها، فإني ما قرأت ورقة الداية عائشة حتى هرعت إلى الدير الذي ذكرته في ورقتها، فإذا هو نفس الدير الذي أودع فيه يوسف، وهناك التمست مقابلة الرئيسة ورجوتها أن تخبرني عن مقر البنت بعد إذ أخبرتها عن علامتها وهو وشم النجمة في ظهرها، وبالاختصار احتلت عليها ونجحت في احتيالي وعلمت منها أن الفتاة صارت صبية جميلة نبيهة، وأنها في منزل الخواجة «م. ج. الخياط» تعلم صغاره فاطمأن بالي ...
Bog aan la aqoon