أذنت جوزفين عصر الأمس لكل خدمها أن يخرجوا حيث يريدون؛ لأنها هي خارجة مع يوسف لزيارة إحدى صديقاتها، ثم ركبت مركبة بالأجرة ومضت ولم تعد.
عاصم
فركب الأمير نعيم في قطار الظهر إلى مصر وقصد توا إلى قصره، فوجد الأمير عاصم فيه وأخته الأميرة بهجت والأميرة نعمت وسائر الخدم، وكلهم قلقون مهتمون بالأمر، فجعل يتحقق منهم فلم يقدر أن يستنتج شيئا، وكان الأمير عاصم يهون عليه الأمر ويخفف من غمه، ولكن الأمير نعيم كاد يجن من جراء هذا الحادث، فهم أن يمضي ويبحث في كل القصور والمنازل التي يظن أنها تمضي إليها، فقال له الأمير عاصم: لم نغفل عن قصر ولا عن بيت، سألنا عنها في الكل فلم نقف على خبر لها. فذكره الأمير نعيم ببعض البيوت والأماكن التي اعتادت جوزفين أن تمضي إليها، فأجابه أنهم بحثوا فيها كلها، فتنهد الأمير نعيم ملء رئتيه ولم يتمالك نفسه عن البكاء، فتفجر الدمع من عينيه، وصارت أخته والأمير عاصم والأميرة بهجت يعزونه ويعللون له غيابها تعليلات ركيكة تخفيفا لآلامه، ولكنهم لم يكونوا إلا ليزيدوا غمه بتلك التعليلات، حتى ضاق ذرعه وطلب الراحة، ففتح له مخدعه فدخل إليه واختلى فيه، ولكن أخته الأميرة نعمت خافت عليه من وحدته فاستأذنته ودخلت عليه، ثم دخل الأمير عاصم والأميرة بهجت.
وأخيرا خطر له أن يبلغ إدارة البوليس لكي تبحث عن جوزفين والصبي، وذكر هذا الخاطر للأمير عاصم فاضطرب عند سماعه هذا الاقتراح، وكادت نبضات قلبه تسمع، ولكنه تجلد وأخفى اضطرابه وأظهر في بدء الأمر استحسانا لهذا الاقتراح لكي لا ينبه الظنون إليه بمعارضته، ولكن ما لبث أن فكر هنيهة حتى عاد، فقال: لا أرى من المستحسن إطلاع إدارة البوليس على هذه المسألة؛ لئلا تفضي النتيجة إلى أمر سيئ لم يكن في حسباننا.
فقال الأمير نعيم: مثل ماذا؟ - لا أدري، وإنما أفضل تأجيل هذا الأمر إلى أن نقنط من الاهتداء إليهما أو عودتهما. - ولكن أخاف أن يفوت الأمر. - كلا لا يفوت؛ لأنها إن كانت باقية في القطر فنكتشفها غدا أو بعد غد كما نكتشف اليوم. - وإن كانت على سفر؟ - أظن اليوم موعد سفر المساجيري إلى أوروبا ... - آه ، ليتني انتبهت فأخبرت في الميناء بعض ذوي الأمر لكي يراقبوها، لعلها مسافرة أو مسفرة، أما الآن فالوقت مساء والباخرة تقلع، فما العمل؟ - على أي حال نرسل تلغرافا إلى الميناء لعل له فائدة.
وفي الحال أرسلوا التلغراف إلى مدير الميناء يوعزون إليه أن يحجز المرأة التي يشتبه أنها جوزفين.
وخلاصة القول أن ذلك المساء، بل ذلك الليل، قضي بالافتراضات والاقتراحات والتخمينات فلم ينم فيه الأمير نعيم طرفة عين؛ لأنه كان على جمر الغضا، وقد بلغ الحزن من فؤاده كل مبلغ حتى رقت له بهجت هانم ورثى له الأمير عاصم نفسه.
وفي صباح اليوم التالي ورد إليه البريد، وكان من جملة رسائل الإسكندرية رسالة جوزفين المستكتبة، فلما قرأها صرخ قائلا: آخ! سامحك الله يا جوزفين! لماذا هذا الهجران؟! أي ذنب جنيته؟! ويلي ويلي! ما أشقى حظي!
ولم يكن الأمير عاصم ولا الأميرة نعمت ليفارقاه، فسمعا صرخته فدخلا عليه إلى غرفته فوجدا الرسالة في يده وقد استلقى على كرسيه كالمغمى عليه، فدنت منه نعمت وقرأت الرسالة فدهشت ولكنها لم تجسر أن تقول كلمة لئلا تجرح عواطفه.
فانتبه حينئذ الأمير نعيم إلى نفسه وتجلد، وطوى الرسالة ووضعها في جيبه، وأومأ إلى أخته أن تكتم الأمر.
Bog aan la aqoon