مقدمة السيد محمد رشيد رضا
بسم الله الرّحمن الرّحيم الرَّحْمنُ
عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فله الحمد أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم، على نبيه الرءوف الرحيم، الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك أئمة وكانوا هم الوارثين.
الإنسان يمتاز بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة، واللغات تتفاضل في حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير. وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق، وسهولة اللفظ والإلقاء، والخفة على السمع. وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح، يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم، وضرب في أساليبها بسهم. ومن آية ذلك لعير العارف، أن أولئك الشراذم والأوزاع من أهلها قد حملوها إلى الأمم التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها بالإلزام، ولا بالتعليم العام. وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربة.
بعد ما طاف ساحل إفريقيا الشمالي، وإلى جدار الصين من الشرق- كل ذلك في زمن قريب لم يعرف في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم، وتعميمها بالتعليم العام، وضرب الترغيب والترهيب.
كانت لغة أميين وثنيين جاهليين، فظهر فيها أكمل الأديان، فكانت له أكمل مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مجلى. وصارت بذلك لغة الدين والشريعة، وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عدت على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوم من مقومات الأمم الحية. ومن تلك المقومات الحقيقية اللغة فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.
1 / 3
ظهر ضعف اللغة في القرن الخامس، وكانت في ريعان شبابها، وأوج عزها وشرفها، وكان أول مرض ألم بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو، ومدلول الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه- وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى تدوين علم البلاغة، ووضع قوانين للمعاني والبيان،
كما وضعت قوانين النحو عند ظهور الخطأ في الإعراب. فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره، واستبدت على المعاني، وأنه يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أزرها.
كتب قبل عبد القاهر في مسائل من البيان بعض البلغاء كالجاحظ وابن دريد وقدامة الكاتب، ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنا مرفوع القواعد مفتح الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض علمائها، وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم، حتى أن ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان السكاكي إلا عيالا على عبد القاهر، تلا تلوه، وأخذ عنه، مع المخالفة في شيء من الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عباراته، والتعقيد في بعض منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من الحدود والرسوم. فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته، وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام.
كان السكاكي وسطا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعميات والألغاز، فضاعت حدود بتلك الحدود. ودرست رسومه بهاتيك الرسوم (١)، وكان من أثر فساد ذوق
_________
(١) توسط الشيخ هنا في حقّ السكاكي وجعله قد سلك مسلكا وسطا بين مسلك عبد القاهر والمتأخرين الذين غالوا في الطريقة التي سنها لهم السكاكي في تعقيد البلاغة بالمبالغة في تعقيدها. انظر كلامنا بالتفصيل على منهج السكاكي في كتابه مفتاح العلوم بتحقيقنا (ط) (دار الكتب العلمية- بيروت).
1 / 4
اللغة اختيار هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها، على الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها، على الكتب التي تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها، فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلي والضعف، فمثل عبد القاهر في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته والسلطان سليمان العثماني في قوانينه.
رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألم بها حتى إذا نقهت أو أبلت اشتهته وطلبته. وهذا هو مثلنا أمس واليوم،
فقد كنا متفقهين على أخذ العلم من كتب علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم الحي الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية، لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي سماها الجهل علما.
ولما هاجرت إلى مصر في سنة ١٣١٥ لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمدا عبده رئيس جمعية إحياء العلوم العربية ومفتي الديار المصرية، اليوم مشتغلا في بعض وقته بتصحيح كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني. وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في طرابلس الشام نسخة منه، فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي، وهي مما تركه والده فلبى الطلب.
وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة، فخرج لنا من مجموعهما نسخة صحيحة سرعنا في طبعها ووضعنا في ذيل المطبوع شرحا لطيفا ضبطنا فيها الكلمات الغريبة وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق التفسير. وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين.
أما كون عبد القاهر واضع الفن ومؤسسه. فقد صرح به غير واحد من العلماء الأعلام، أجلهم قدرا، وأرفعهم ذكرا، أمير المؤمنين محيي علوم اللغة والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز، في علوم حقائق الإعجاز)، فقد
1 / 5
قال في فاتحة كتابه هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد القاهر ما نصه:
«وأول من أسس من هذا الفن قواعده وأوضح براهينه، وأظهر فرائده ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز. والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما. مع شغفي بحبهما وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما» (١).
وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي في بيانها عرضه على الأنظار مع التنبيه على
مسألتين نافعتين (إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونا كليا يرشد إليها فهو القاعدة. وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم فهو المثل. (والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة، إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل. وبهذه الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم، وهي طريقة عبد القاهر في كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز، على أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من كتب الفن لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية، تنكرها بلاغة الأساليب العربية. ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر، الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر.
لهذا بادر الإمام، مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام، إلى تدريس الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه فأقبل على حضور درسه مع أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة المدارس الأميرية. وقد قال أحد فضلاء هؤلاء
_________
(١) انظر كلامه بنصّه في الطراز للعلوي بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي (ط) المكتبة العصرية (بيروت).
1 / 6
الأستاذين (١) بعد حضور الدرس الأول «إننا قد اكتشفنا في هذه الليلة معنى علم البيان».
وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في التعليقات فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولا في آخر الكتاب إتماما للفائدة ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل).
ونختم هذه المقدمة بملخص ترجمة المصنف رحمه الله تعالى فنقول:
اتفق المؤرخون على الثناء عليه بالعلم والدين، ولقبوه بالإمام، واشتهر بالنحوي من قبل أن يضع علم البلاغة. على أنه كان متكلما وفقيها أيضا، قال الحافظ الذهبي في تاريخه (دول الإسلام): «وفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة مات إمام النحاة أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني صاحب التصانيف» وقال تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى): عبد القاهر بن عبد الرحمن الشيخ الكبير أبو بكر الجرجاني النحوي
المتكلم على مذهب الأشعري الفقيه على مذهب الشافعي أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، وصار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات، مع الدين المتين، والورع والسكون». قال السلفي: كان ورعا قانعا دخل عليه لص وهو في الصلاة فأخذ ما وجد وعبد القاهر ينظر ولم يقطع صلاته. (ثم قال السبكي):
«ومن مصنفاته كتاب (المغني على شرح الإيضاح) في نحو ثلاثين مجلدا، وكتاب (المقصد في شرح الإيضاح) أيضا ثلاث مجلدات، وكتاب (إعجاز القرآن الصغير) و(العوامل المائة). و(المفتاح)، و(شرح الفاتحة)، و(العمدة في التصريف)، وكتاب (الجمل المختصر المشهور).
وفي كتاب (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) نحو من ذلك وزاد في ذكر المصنفات شرح كتاب الجمل، وذكر أن علي بن أبي زيد الفصيحي أخذ عنه وذكروا له شعرا فمنه ما أورده الصلاح الكتبي في فوات الوفيات:
_________
(١) هو المرحوم الشيخ محمد مهدي بك مدرس البلاغة وآداب اللغة العربية في المدارس العليا: دار العلوم فمدرسة القضاء الشرعي والجامعة المصرية. (رشيد).
1 / 7
لا تأمن النفثة من شاعر ... ما دام حيا سالما ناطقا
فإن من يمدحكم كاذبا ... يحسن أن يهجوكم صدقا
واتفقوا على أنه توفي سنة ٤٧١، قال السبكي: (وقيل: ٤٧٤) رحمه الله تعالى.
السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار)
1 / 8
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله الذي شرفنا بعد أخذ آيات القرآن، بتعلم علوم البلاغة والبيان؛ فلا جرم أنها تقع من سائر العلوم اللغوية بمنزلة الرأس من الجسد، فهي باسمى منزلة، وأعلى مكان، وذلك لتعلقها ببيان أسرار الكتاب المجيد، ومن ثم بيان مقصود الله ومراده من العبيد.
وبعد؛ فإن كتاب (أسرار البلاغة) يعد وهو وكتاب (دلائل الإعجاز) لشيخ البلاغيين- بلا منازع- الإمام عبد القاهر الجرجاني، يعدان بالمقام الأول من كتب البلاغة بلا نزاع بين أهل العلم بهذا الفن، ولم أر في كلام أحد من
المتقدمين أو المتأخرين من يقدم عليهما كتابا في هذا الفن؛ بل إنك إذا سألت أحدا عن كتاب جيد يحفظ للبلاغة رونقها وطلاوتها غير هذين الكتابين فإنه يقف باهتا متحيرا فلا يعيرك جوابا، غير النفي القاطع، فإن سألته عن أجود الكتب بعدهما، فإنه يتردد ويتلعثم من جهة عظم الهوّة وعظم الفارق والبون، بين هذين الكتابين وما يجعل تاليا لهما وما ذلك إلا لأن كتب المتقدمين قبل عبد القاهر كانت عبارة عن مباحث متفرقة، وإشارات خاطفة، وعبارات متناثرة، تكد في جمعها من هنا وهناك، فجاء ذلك الإمام فجمع أصول هذا العلم، وردّ إليها فروعه، ووضع له قواعده وأصوله، بغير جفاف ولا تعقيد، وبغير مبالغة في الحصر والإحصاء والتفريع والتمييز، والتحديد، مما عرف عن المتأخرين كالسكاكي ومن تابعه من صرامة المنطق والمبالغة في التحديد والتجريد.
فكانت طريقته قصدا بين الطريقة الأدبية القديمة في تحليل النصوص وترك الأمور هملا دون تقييد ولا تعقيد ولا تجريد لقواعد العلم وأصوله، وبين طريقة المتأخرين الذين غلب عليهم جفاف المنطق وصرامته، وشدة التجريد والتعقيد وقوته. ويأتي هذا الكتاب الجليل (أسرار البلاغة) ليفرده الشيخ لمعالجة أكثر
1 / 9
مباحث علمي البديع والبيان بحسب التقسيم الثلاثي للبلاغة عند المتأخرين، كما اشتمل كتابه دلائل الإعجاز على أكثر مباحث (علم المعاني).
وتأتي قيمة هذا الكتاب الجليل (أسرار البلاغة) في أنه يبين وجه الحق في قضية المحسنات البديعية التي اعتبرها البلاغيون المتأخرون أمرا خارجا عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فهي مجرد زينة لفظية يؤتى بها بعد استيفاء الكلام وجوه المطابقة، فيؤتى به لمجرد الزخرف والزينة والكلام في غنى عنه.
هذه النظرة الخاطئة هي التي جعلت من البديع حجر عثرة في سبيل ارتقاء النصوص الأدبية في العصر الذي شاعت فيه تلك النظرة العقيمة حيث تبارى قارضو الشعر في تدبيج قصائدهم بصور الزخرف اللفظي الكثيرة المتعددة التي تبارى هؤلاء البلاغيون في تعدادها وبيانها والإيصاء بها.
فكانت سمة تلك العصور هي الإكثار من تلك المحسنات والزخارف دون أن يكون لها دور في التعبير عن المعاني أو الأفكار التي صيغت لها تلك النصوص والأشعار، ولعل هذه النظرة الخاطئة قد ظهرت بوادرها في عصر الإمام عبد القاهر الجرجاني بدليل ما استشهد به من الأبيات الدالة على التكلف في استخدام صور الجناس وغيرها من فنون البديع.
الأمر الذي دعاه إلى أن يرد الأمر إلى نصابه، ويكشف النقاب عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به تلك المحسنات
إذا ما أتي بها مواكبة للمعنى، موافقة له، وذلك إذا أرسلت النفوس على سجيتها، ولم يتكلف في إيراد تلك الوجوه من المحسنات.
ولذا فقد اجتهاد الإمام عبد القاهر في وضع ضوابط توظيف تلك المحسنات، وبيان متى تحسن، ومتى تقبح؛ فمن ذلك قوله: «أما التجنيس؛ فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا ... إلخ».
وتراه ينعي على المتأخرين في زمانه المغالاة في أمر تلك المحسنات فيقول:
«وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع
1 / 10
السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده، كمن ثقل العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها».
هذا وقد فصلت الكلام على هذه القضية مرارا في تعليقاتي على هذا الكتاب، وفيما كتبته من قبل في رسالتي للماجستير عن الجهود البلاغية للإمام الطيبي (١)، وغيرها من كتبي، وأمر آخر مما يحمد لعبد القاهر في هذا الكتاب وهو تناوله لمباحث علمي البديع والبيان بلا فصل بينهما فهي لديه جميعا مجرد أساليب لغوية بلاغية ينبغي على البلاغي أن يقف أمامها بالتحليل الأدبي البلاغي الذي يوازن فيها بين الصياغة التعبيرية الأسلوبية التي تشكلت بها تلك الفنون والأساليب وبين المعاني الفنية التي تدل عليها، بلا تفريق بين تلك المباحث وبغير تشتيت للنظر بوضع الحدود المصطنعة بينها بلا داع ولا ضرورة تملها النظرة البلاغية الأدبية، اللهم إلا أن تكون النظرة المنطقية العقلانية المتجردة المهوّمة في خيالات العقول بغير مطابقة لحقيقة تلك الفنون، ولا مناسبة لطبيعتها. والحق أننا هنا لسنا بصدد تعداد مظاهر الجودة والتوفيق في هذا السفر العظيم فهي عديدة تنأى عن الحصر، وقد كتب في دراستها وتحليلها أسفار عديدة، وسيقف القارئ بنفسه على كثير من تلك الفوائد والأسرار كلما نظر في هذا الكتاب ثم راح يوازن بينه وبين ما انتهت إليه أحدث النظريات الأسلوبية والبلاغية في علوم البلاغة والأسلوب.
منهج التحقيق:
أما عن منهجنا في تحقيق هذا الكتاب فيتلخص في تلك النقاط:
١ - ضبط متن الكتاب اعتمادا على نسخه المتداولة لا سيما نسختي الشيخ (رشيد رضا) ونسخة الشيخ (محمود
شاكر) وهي أجود طبعات الكتاب وتحقيقاته.
٢ - تخريج جميع شواهد الكتاب ونصوصه القرآنية والحديثية والشعرية في مصادرها الأصلية ما أمكن مع الاهتمام بعزو الشواهد الشعرية إلى مصادرها التي استشهدت بها في كتب البلاغة العربية لخدمة القارئ إذا ما أراد الوقوف على وجه الاستشهاد بالبيت أو جمع كلام البلاغيين في الاستشهاد به.
_________
(١) ط مكتبة نزار الباز (المكتبة التجارية) مكة المكرمة.
1 / 11
٣ - شرح الغريب.
٤ - إثبات أهم فروق النسخ المؤثرة في إحالة المعاني.
٥ - إثبات أهم تعليقات الشيخ رشيد رضا، وشيخه محمد عبده لأهميتها وجلالتها، مع الانتفاع بتعليقات الشيخ محمود شاكر كذلك، وقد رمزت لتعليقات الشيخ رشيد بكلمة (رشيد) بين قوسين بعد تمام النقل. ولشيخه محمد عبده برمز (ش) ولكلام الشيخ محمود شاكر برمز (شاكر).
ووضحت تعليقاتي وإضافاتي لما عقبت به بعد أحدهم بقولي (قلت) بين قوسين.
هذا، ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتوجه بالشكر لدار الكتب العلمية على ما قامت به من جهد مشكور في مراجعة تجارب الكتاب وتصحيحه وطباعته تلك الطباعة اللائقة.
هذا، والله نسأل أن يجزل لنا المثوبة في هذا العمل، ولكل من شارك فيه بجهد مشكور، وأن ينفع به ويعين على معرفة أسرار كتابه العزيز، إنه سبحانه مولى ذلك وهو القادر عليه.
وكتبه د. عبد الحميد هنداوي المدرس بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة الجيزة في رجب ١٤٢١ هـ.
1 / 12
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المؤلف]
قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي رحمة الله عليه ورضوانه:
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين.
اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدلّ على سرائرها، ويبرز مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عظم الامتنان، فقال عزّ من قائل:
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن ١ - ٤]، فلولاه لم تكن لتتعدّى فوائد العلم عالمه، ولا صحّ من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه، ولتعطّلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوت القضيّة في موجودها وفانيها.
نعم، ولوقع الحيّ الحسّاس في مرتبة الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرّفها معقولة، والأذهان عن سلطانها معزولة، ولما عرف كفر من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر فرق بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين. ثم إنّ الوصف الخاصّ به، والمعنى المثبت لنسبه، أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها، ويقرّر كيفياتها التي تناولها (١) المعرفة إذا سمت إليها.
وإذا كان هذا الوصف مقوّم ذاته وأخصّ صفاته، كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر، وبه أولى وأجدر. ومن هاهنا يبيّن للمحصل، ويتقرّر في نفس المتأمّل، كيف ينبغي أن يحكم في تفاضل الأقوال إذا أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدّل القسمة بصائب القسطاس والميزان.
ومن البيّن الجليّ أن التباين في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من
_________
(١) تناولها: أصله تتناولها على المضارع: حذفت إحدى التاءين تخفيفا، وفي نسخة: (تناولتها) على المضي.
1 / 13
الرذيلة، ليس بمجرّد اللفظ (١). كيف؟ والألفاظ لا تفيد حتى تؤلّف ضربا خاصّا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب. فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدّا كيف جاء واتّفق، وأبطلت نضده (٢) ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيّرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد، نحو أن تقول في: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٣) «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب»، أخرجته من كمال البيان، إلى مجال الهذيان. نعم وأسقطت نسبته من صاحبه، وقطعت الرّحم بينه وبين منشئه، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل، ونسب يختصّ بمتكلم. وفي ثبوت هذا الأصل ما تعلم به أنّ المعنى الذي له كانت هذه الكلم بيت شعر أو فصل خطاب، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها
على صورة من التأليف مخصوصة. وهذا الحكم- أعني الاختصاص في الترتيب- يقع في الألفاظ مرتّبا على المعاني المرتّبة في النفس، المنتظمة فيها على قضيّة العقل (٤). ولا يتصوّر في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير، وتخصّص في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركّبة، وأقسام الكلام المدوّنة، فقيل: من حق هذا أن يسبق ذلك، ومن حقّ ما هاهنا أن يقع هنالك، كما قيل في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل، حتى حظر
_________
(١) وفي نسخة: الألفاظ، قلت: ولعله هو الأولى لاتفاقه مع ما بعده.
(٢) أي: نسقه ونظامه.
(٣) البيت لامرئ القيس من معلقته الشهيرة وهو في ديوانه: ١١٠، وانظر شرحه في شرح المعلقات العشر للشنقيطي: ٥٨، وشرح القصائد العشر للتبريزي: ٢٠، وتمامه:
بسقط اللّوى بين الدخول فحومل والبيت من مفتاح العلوم تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، طبعة دار الكتب العلمية: ٦٢٥، والأزهية: ٢٤٤، وخزانة الأدب: ١/ ٣٣٢، ٣/ ٢٢٤، والدرر: ٦/ ٧١، ولسان العرب: ٢٠٩ (لوى)، والإيضاح: ٣٦٩، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي.
المعنى: قفا: يخاطب الشاعر نفسه أو صاحبه أو صاحبيه لأن العرب قد يخاطب الواحد منهم صاحبه مخاطبة الاثنين كما يخاطب الجماعة كذلك، ذكرى حبيب، ومنزل: تذكر الحبيب ومنزله الذي ألف النزول به. سقط اللوى: منقطع الرمل، ويقال للوى وحده كذلك: منقطع الرمل، والدخول وحومل: قيل: إنهما موضعان من شرق اليمامة.
(٤) كلام المصنف هنا على قضية النظم، وقد فصل الكلام عليها، وأشرنا إلى ذلك في كتابه الآخر دلائل الإعجاز فراجعه.
1 / 14
في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلّا سابقا، وفي آخر أن يوجد إلا مبنيّا على غيره وبه لاحقا، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام، وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أن تزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام.
فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللّفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف (١)، وإلى ظاهر الوضع اللغويّ، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.
وأمّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه، وكونه من أسبابه ودواعيه، فلا يكاد يعدو نمطا واحدا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيا غريبا، أو عامّيا سخيفا، سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة، كقول العامة
«أشغلت» و«انفسد». وإنما شرطت هذا الشرط، فإنه ربما استسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرّد اللفظ، كما يحكى من قول عبيد الله بن زياد لما دهش: «افتحوا لي سيفي»، وذلك أن «الفتح» خلاف «الإغلاق»، فحقّه أن يتناول شيئا هو في حكم المغلق والمسدود، وليس السّيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون كونه في الغمد بمنزله كون الثوب في العكم (٢)، والدرهم في الكيس، والمتاع في الصندوق. و«الفتح» في هذا الجنس (٣) يتعدّى أبدا إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا يقال: «افتح الثوب»، وإنما يقال: «افتح العكم» و«أخرج الثوب» و«افتح الكيس».
وهاهنا أقسام قد يتوهّم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة، أنّ الحسن والقبح فيها لا يتعدّى اللفظ والجرس، إلى ما يناجي فيه العقل النفس، ولها إذا حقّق النظر مرجع إلى ذلك، ومنصرف فيما هنالك، منها: «التجنيس» و«الحشو».
_________
(١) جمع جرس- بكسر الجيم وبفتحها- وهو الصوت، أو الخفي منه.
(٢) العكم- بالكسر- كالعدل وزنا ومعنى، والمراد بالعدل هنا الغرارة والجوالق، وهو نصف الحمل يكون على أحد جانبي البعير، أي: يكون على جانبي البعير عدلان، وقد سمي عدلا لتعادله وتماثله مع نظيره في الشق الآخر. والعكم أيضا: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها.
(٣) وفي نسخة: المعنى.
1 / 15
القول في التجنيس
أما «التجنيس» فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعا حميدا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا، أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله: [من الكامل]
ذهبت بمذهبه السّماحة فالتوت ... فيه الظّنون: أمذهب أم مذهب (١)
واستحسنت تجنيس القائل: [من الرجز] حتى نجا من خوفه وما نجا (٢) وقول المحدث: [من الخفيف]
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني (٣)
لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأوّل وقويت في الثاني؟ ورأيتك لم يزدك «بمذهب ومذهب» على أن أسمعك حروفا مكررة، تروم فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفّاها، فبهذه السريرة
صار «التجنيس» - وخصوصا المستوفى منه المتّفق في الصورة- من حلى الشّعر، ومذكورا في أقسام البديع.
فقد تبين لك أن ما يعطي «التجنيس» من الفضيلة، أمر لم يتمّ إلا بنصرة المعنى، إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن، ولما وجد فيه معيب مستهجن. ولذلك ذمّ الاستكثار منه والولوع به.
وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ
_________
(١) البيت هو في ديوانه: ٤٣، من قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب ويصف غلاما أهداه إليه، والبيت من دلائل الإعجاز: ٥٢٣.
(٢) البيت هو من إعجاز القرآن: ٥٢٣، والبيان والتبيين ١/ ١٥٠، والحيوان: ٣/ ٧٥، و«نجا» الأولى بمعنى أحدث، والثانية بمعنى خلص (رشيد). قلت: «نجا» الأولى من النجو وهو ما يخرج من البطن من الغائط، يريد أنه من خوفه أحدث، ثم لم ينج من النجاة.
(٣) البيت هو ثاني بيتين يرويان لشمسويه البصري، ولشداد بن إبراهيم الجزري، ولأبي الفتح البستي، وهو في دلائل الإعجاز: ٥٢٣. وقبله:
قيل للقلب ما دهاك؟ أجبني ... قال لي: بائع الفراني فراني
وكان حق المصنف أن يذكره كذلك فهو شاهد لما هو فيه من الجناس كذلك.
1 / 16
خدم المعاني والمصرّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقّة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتّعرّض للشّين.
ولهذه الحالة كان كلام المتقدّمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع، ولزموا سجيّة الطبع، أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأفضل عند ذوي التّحصيل، وأسلم من التفاوت، وأكشف عن الأغراض، وأنصر للجهة التي تنحو نحو العقل، وأبعد من التّعمّد الذي هو ضرب من الخداع بالتزويق، والرضى بأن تقع النقيصة في نفس الصّورة. وإنّ الخلقة، إذا أكثر فيها من الوشم والنقش، وأثقل صاحبها بالحلي والوشي، قياس الحلي على السيف الدّدان (١)، والتوسّع في الدعوى بغير برهان، كما قال: [من الطويل]
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب (٢)
وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن ينسى أنّه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيّل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربّما طمس بكثرة ما يتكلّفه على المعنى وأفسده، كمن ثقّل
العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها (٣).
_________
(١) الددان من السيوف: نحو الكهام. وقال ثعلب: هو الذي يقطع به الشجر، وهو عند غيره إنما هو المعضد، وسيف كهام وددان بمعنى واحد.
(٢) البيت للمتنبي في ديوانه: ٢/ ٢٣٠، من قصيدة أغالب فيك الشوق، وقبله:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
والبيت في الإيضاح: ٣٤٦، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، طبعة مؤسسة المختار. والشيات:
جمع شية وهي كل لون في الشيء مخالف معظم لونه الأصلي والضمير للخيل التي يصفها.
(٣) لا يفهم من هذا الكلام أن عبد القاهر يمنع من التحسين اللفظي أو يقف معارضا له، بل إن ذمه منصب على من بالغ في هذا الأمر حتى جعل هذا التحسين همّه ودأبه ونسي غرضه، وتناسى وظيفة هذا التحسين ودوره في تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال خلافا لمتأخري البلاغيين الذين قصروا دور المحسنات اللفظية على وظيفة التزيين والتحسين دون أن يكون لها أدنى دور في تحقيق المطابقة، شأنها في ذلك شأن العلمين الآخرين (المعاني والبيان) وقد فصلت القول في هذه القضية في أكثر من موضع من كتبي، من ذلك الفصل الذي عقدته لذلك في رسالتي للماجستير عن الجهود البلاغية للإمام الطيبي، ط مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة. وقد بينت فيها أن تلك المحسنات منها ما هو بليغ، ومنها ما هو مطابق، ومنها ما هو متكلف، فليراجع ما كتبناه هنالك.
1 / 17
فإن أردت أن تعرف مثالا فيما ذكرت لك، من أن العارفين بجواهر الكلام لا يعرّجون على هذا الفنّ إلا بعد الثقة بسلامة المعنى وصحّته، وإلا حيث يأمنون جناية منه عليه، وانتقاصا له وتعويقا دونه، فانظر إلى خطب الجاحظ في أوائل كتبه هذا- والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع، فإنها تروى وتتناقل تناقل الأشعار، ومحلّها محلّ النسيب والتشبيب (١) من الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه إلّا الاحتفال في الصنعة، والدّلالة على مقدار شوط القريحة (٢)، والإخبار عن فضل القوة، والاقتدار على التفنّن في الصنعة- قال في أول كتاب الحيوان:
«جنّبك الله الشّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سببا، وبين الصدق نسبا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القلّة».
فقد ترك أوّلا أن يوفّق بين «الشبهة» و«الحيرة» في الإعراب، ولم ير أن يقرن «الخلاف» إلى «الإنصاف»، ويشفع «الحق» «بالصدق»، ولم يعن بأن يطلب «لليأس» قرينة تصل جناحه، وشيئا يكون رديفا له، لأنه رأى التوفيق بين المعاني أحقّ، والموازنة فيها أحسن، ورأى العناية بها حتى تكون إخوة من أب وأمّ؛ ويذرها على ذلك تتّفق
بالوداد، على حسب اتّفاقها بالميلاد، أولى من أن يدعها، لنصرة السجع وطلب الوزن، أولاد علّة (٣)، عسى أن لا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر، فأما أن يتعدّى ذلك إلى الضمائر، ويخلص إلى العقائد والسّرائر، ففي الأقلّ النادر.
وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا، ومن هاهنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقّه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهّب لطلبه، أو ما هو- لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبا- بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك كما يمثّلون به أبدا من قول الشافعي رحمه الله تعالى وقد سئل عن النّبيذ فقال: «أجمع
_________
(١) نسب بالمرأة:- كنصر وضرب- وصف محاسنها بالشعر، والنسيب والتشبيب بالنساء واحد.
(٢) الشوط: هو الجري مرة واحدة إلى غاية.
(٣) أولاد العلة والعلات: هم الذين أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى، وقد ورد في الحديث: «نحن معشر الأنبياء إخوة لعلات» يقصد أن الدين واحد والشرائع شتّى.
1 / 18
أهل الحرمين على تحريمه». ومما تجده كذلك قول البحتري: [من الكامل]
يعشى عن المجد الغبيّ ولن ترى ... في سؤدد أربا لغير أريب (١)
وقوله: [من الوافر]
فقد أصبحت أغلب تغلبيّا ... على أيدي العشيرة والقلوب (٢)
ومما هو شبيه به قوله: [من الكامل]
وهوى هوى بدموعه فتبادرت ... نسقا يطأن تجلّدا مغلوبا (٣)
وقوله: [من الكامل]
ما زلت تقرع باب بابل بالقنا ... وتزوره في غارة شعواء (٤)
وقوله: [من الكامل]
ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة ... فيه بناظرها حديد الأسفل (٥)
ومثال ما جاء من السجع هذا المجيء وجرى هذا المجرى في لين مقادته، وحل هذا المحلّ من القبول قول القائل:
«اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، فلا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلّا بمال» (٦)، وقول ابن العميد: «فإن الإبقاء على خدم السلطان عدل الإبقاء على ماله، والإشفاق على حاشيته وحشمه، عدل الإشفاق على ديناره ودرهمه».
_________
(١) البيت هو في ديوانه، والإيضاح: ٣٣٧، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، يعشى: أراد يعمى، والقصد أنه لا يشغل به وطريقه الكناية. السؤدد: رفعة القدر وكرم المنصب. أرب: غاية، ومأرب، أريب: عاقل لبيب.
(٢) البيت في ديوانه.
(٣) البيت من الكامل، وهو في ديوانه.
(٤) البيت في ديوانه.
(٥) البيت في ديوانه في وصف الفرس، وقبله:
جذلان ينفض عذرة في غرة ... يقق تسيل حجولا في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشيه ... عرضا على السنن البعيد الأطول
(٦) هو مشهور من دعاء قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي ﵁، صحابي، وهذا الدعاء أورده الجاحظ في البيان والتبيين ٣/ ٢٨٤، وهو مذكور في ترجمته أيضا. ولكن أصح منه أنه من دعاء أبيه سعد بن عبادة، رواه ابن سعد قال: أخبرنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن سعدا بن عبادة كان يدعو» وذكر الدعاء، وتمامه عنده: «اللهم لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه»، طبقات ابن سعد ٣/ ١٤٣ [محمود شاكر].
1 / 19
ولست تجد هذا الضرب يكثر في شيء، ويستمرّ كثرته واستمراره في كلام القدماء، كقول خالد: «ما الإنسان، لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، وبهيمة مهملة»، وقول الفضل بن عيسى الرقاشي: «سل الأرض فقل: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا».
وإن أنت تتبّعته من الأثر وكلام النبي ﷺ، تثق كلّ الثقة بوجودك له على الصّفة التي قدمت، وذلك كقول النبي ﵇: «الظّلم ظلمات يوم القيامة»، وقوله صلوات الله عليه: «لا تزال أمّتي بخير ما لم تر الغنى مغنما، والصدقة مغرما»، وقوله: «يا أيّها الناس؛ أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام».
فأنت لا تجد في جميع ما ذكرت لفظا اجتلب من أجل السجع، وترك له ما هو أحقّ بالمعنى منه وأبرّ به، وأهدى إلى مذهبه.
ولذلك أنكر الأعرابي حين شكا إلى عامل ألما بقوله: «حلأت (١) ركابي، وشقّقت ثيابي، وضربت صحابي»، فقال له العامل: «أو تسجع أيضا» إنكار العامل السجع حتى قال: «فكيف أقول؟»، وذاك أنّه لم يعلم أصلح لما أراد من هذه الألفاظ ولم يره بالسجع مخلّا بمعنى، أو محدثا في الكلام استكراها، أو خارجا إلى تكلّف واستعمال لما ليس بمعتاد في غرضه. وقال الجاحظ: «لأنه لو قال: «حلّئت إبلي» أو «جمالي» أو «نوقي» أو «بعراني» أو «صرمتي» (٢) لكان لم يعبّر عن حقّ معناه، وإنما حلّئت ركابه، فكيف يدع «الركاب» إلى غير الركّاب؟ وكذلك قوله: «وشقّقت ثيابي، وضربت صحابي».
فقد تبين من هذه الجملة أن المعنى المقتضى اختصاص هذا النّحو بالقبول:
هو أنّ المتكلم لم يقد المعنى نحو التجنيس والسّجع، بل قاده المعنى إليهما، وعبر
_________
(١) الرّكاب بالكسر: الإبل التي يسار عليها، واحدتها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها «ركب» بضم الكاف مثل «كتب» وفي حديث النبي ﷺ: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الرّكاب أسنتها» أي: أمكنوها من الرعي، وأما قوله: (حلأت ركابي) فيقال: حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئا وتحلئة: طردها أو حبسها عن الورود ومنعها أن ترده.
(٢) الصّرمة بالكسر: القطعة من الإبل، قيل: هي ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الخمسين والأربعين، فإذا بلغت الستين فهي: «الصّدعة»، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، وقيل: ما بين عشرة إلى بضع عشرة.
1 / 20
به الفرق عليهما، حتى إنه لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع، لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه، في شبيه بما ينسب إليه المتكلف للتّجنيس المستكره، والسجع النّافر. ولن تجد أيمن طائرا، وأحسن أوّلا وآخرا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيّتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأمّا أن تضع في نفسك أنه لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه (١)، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذّمّ، فإن ساعدك الجدّ كما ساعد في قوله: «أو دعاني أمت بما أو دعاني»، وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله: [من الطويل]
وأنجدتم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد (٢)
وقوله: [من الكامل]
هنّ الحمام، فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهنّ حمام (٣)
فذاك، وإلّا أطلقت ألسنة العيب، وأفضى بك طلب الإحسان من حيث لم يحسن الطلب، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب، ووقعت فيما ترى من ينصرك، لا يرى أحسن من أن لا يرويه لك، ويودّ لو قدر على نفيه عنك، وذلك كما تجده لأبي
_________
(١) أي: بجانب الاستكراه، والمقصود ذم تكلف التجنيس وطلب التحسين وتعمده واستكراه اللفظ عليه دون أن يقتضيه المعنى، وتنقاد له النفس، ويستلذه الحسّ؛ وليس معنى ذلك أن اختيار التجنيس وأشباهه من المحسنات مذموم إذا كان موافقا للمعنى، مطابقا للمقتضى، فإذا حضرك لفظان أحدهما يوافق المعنى بلا تجنيس، والآخر يوافقه مع زيادة التجنيس أو التحسين؛ فإن حق البلاغة والفصاحة هنا اختيار اللفظ الذي هو آنق في السمع، وأوفق للنفس والحسّ؛ فإن التحسين والتزيين المطابق لا يخفى أنه يقع من البلاغة بمكان، وأنه هو الذي يجذب النفس إلى المعاني، ويهون عليها ثقل اللفظ ورتابته.
(٢) البيت في ديوانه: ١٢٠ من قصيدة قالها في مدح موسى بن إبراهيم الرافقيّ ويعتذر إليه، وقبله:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد
والبيت في الإيضاح: ٣٣٧، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي.
أنجدتم: سكنتم نجدا. إتهام داركم: اتخاذها في تهامة. أنجدني: ساعدني وعاوني.
(٣) البيت لأبي تمام في ديوانه: ٢٦٣، عن قصيدة في مدح المأمون، وقبله:
أتحدّرت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تصعصع الإظلام
لا تنشجينّ لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام
العيافة: زجر الطير. والحمام: الموت. استغرام: أي: داع للغرام وهو الهلاك.
1 / 21
تمام إذا أسلم نفسه للتكلف، ويرى أنه إن مرّ على اسم موضع يحتاج إلى ذكره أو يتصل بقصة يذكرها في شعره، من دون أن يشتقّ منه تجنيسا، أو يعمل فيه بديعا، فقد باء بإثم، وأخلّ بفرض حتم، من نحو قوله: [من البسيط]
سيف الإمام الذي سمّته هبّته ... لمّا تخرّم أهل الكفر مخترما
إنّ الخليفة لمّا صال كنت له ... خليفة الموت فيمن جار أو ظلما
قرّت بقرّان عين الدين واشتترت ... بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما (١)
وكقول بعض المتأخرين: [من الكامل]
البس جلابيب القنا ... عة إنّها أوقى رداء
ينجيك من داء الحري ... ص معا ومن أوقار داء (٢)
وكقول أبي الفتح البستي: [من السريع]
جفّوا فما في طينهم للذي ... يعصره من بلّة بلّه (٣)
وقوله: [من الوافر]
أخ لي لفظه درّ ... وكلّ فعاله برّ
تلقّاني فحيّاني ... بوجه بشره بشر (٤)
لم يساعدهما حسن التوفيق كما ساعد في نحو قوله: [من الوافر]
وكلّ غنى يتيه به غنيّ ... فمرتجع بموت أو زوال
_________
(١) الأبيات لأبي تمام في ديوانه: ٢٨٤، من قصيدة قالها في مدح إسحاق بن إبراهيم المصعبي.
والشتر: انقلاب الجفن من أعلى وأسفل قلما يكون خلقة، وقيل: هو أن ينشق الجفن حتى ينفصل الحتار. وقرّان (بالضم وتشديد الراء) والأشتران: مواضع في بلاد الخرمية بين نهاوند وهمدان. والجناس في البيت الأخير يسمونه المطلق.
(٢) أوقار داء: الأوقار: جمع وقر بالفتح وهو الحمل الثقيل، أي: أثقال داء، والجناس في قافية البيتين يسمونه المركب وتركيبه في الطرفين (رشيد رضا).
(٣) في المخطوطة والمطبوعتين: «من بلة بالله» وهو كلام بلا معنى، والصواب ما في ترجمته في يتيمة الدهر للثعالبي، والبلّة الأولى: البلل. والبله الثانية: الخير والرزق وما ينتفع به (محمود شاكر).
(٤) البيتان هما لأبي الفتح البستي في ديوانه. والبشر (بالتحريك) جمع بشرة: وهي ظاهر الجلد وسكن الشين للضرورة.
1 / 22