فلما صرنا على مقربة من سنكات ونحن فيما يشبه لباس الدراويش سألت رفيقي عن رأيه، فوافقني على دخول سنكات فصبرنا حتى سدل الليل نقابه، وسرنا حتى اقتربنا من الحصون فنادينا الأمان، فأمنونا، فدخلنا البلدة وأخذ العساكر يسألوننا عن حالنا، فأخبرناهم بما عرفناه، وبتنا تلك الليلة قرب الحصون، وذهبت في الصباح التالي إلى البلدة ، فإذا هي ليست كبيرة، وأبنيتها من الآجر تتخللها بيوت من القش، ولكني شاهدت أهلها في ضنك شديد من قلة المئونة لانقطاع السابلة عليهم من كل الجهات، فكان كل من شاهدني يسألني عن المهدويين وعن مذبحة هيكس.
الفصل السادس والستون
بطل سنكات
وفيما أن أجول في البلدة جاءني جندي يدعوني إلى مقابلة توفيق بك؛ محافظها، فذهبت إليه وإذا هو جالس على مقعد في ديوانه مقطب الوجه.
فلما دخلت حييت فأذن لي في الجلوس وأخذ يسألني عما سمعته عن حملة باكر باشا، فقلت: إني لم أسمع إلا أنها جاءت لإنقاذكم من هذا الحصار.
فتنهد توفيق بك وهز رأسه وجعل يخاطب نفسه قائلا: أجاءوا إلينا بنساء أم برجال؟ ثم نهض عن المقعد وجعل يتمشى في أرض الديوان فتعجبت لذلك، ولكني لم أجسر على سؤاله عن السبب حتى عاد إلى المقعد وأشعل سيكارته، وأعطاني سيكارة فتناولتها، وقد راعني منظره ووددت الخروج من الغرفة، فقال يخاطب ضابطا بجانبه: قد جاء باكر باشا بجنوده لإنقاذنا، ثم علمت أنهم أمروا بالإسراع إلى إنقاذ حامية طوكر، فلما وصلوا آبار التيب نزل عليهم العصاة وأمعنوا فيهم قتلا ونهبا. وقد سمعت أن الجنود والضباط لم يحسنوا الدفاع، وليس ذلك فقط، بل إنهم تربعوا على الصعيد وأخذوا يصيحون ويولولون كأنهم نساء، والعرب تعمل السيف فيهم. ولقد ساء ذلك باكر باشا كثيرا، وكانت النتيجة انكسار النجدة وعودها، وازدياد الحصار علينا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأخذ ذلك الضابط يخفف عنه ويهون عليه، فقال له: إني لا أخاف الموت من أجل نفسي، ولكني أخشى العار الذي يلحق بحكومتي لإهمالها إنقاذ حامية هذه البلدة التي دافع أهلها دفاعا حسنا، وكم من كتاب جاءنا من عثمان دقنا يعدنا مواعيد حسنة إذا سلمنا ولم نجبه إلا بالتهديد والوعيد!
قال ذلك وجعل يدخن سيكارته كأنه يلتهمها التهاما وقد اتقد غيظا، ثم نهض عن المقعد وعاد إلى التمشي. أما أنا فازددت رهبة من غضبه حتى لم أعد أستطيع النهوض للانصراف، فلبثت صامتا.
فقال له الضابط : تمهل يا سيدي، إن الفرج قريب، والحكومة لا تهمل أمرنا؛ لأننا أولادها.
فرفس الأرض برجله قائلا: كيف نصبر وعن قريب يحل بنا ما حل بهيكس، ولكن ذلك معذور لبعده عن مراكز الحكومة، ولأنهم لم يكونوا يعرفون مقره. أما نحن فمكاننا معلوم، وقد أصبحنا في حال لا تطاق من الضيق الجوع، فإن أهل البلد يأكلون الجلود ولحم الكلاب والخيل والجمال لقلة المئونة. وماذا تريد منهم أكثر من هذا الصبر على عهود الحكومة ومصلحتها؟ أما بخيت فخف قلقه على معرفة حال الدبوس لاشتغاله بهذه الحكاية الغريبة، وكان قد سمع عن مقتل توفيق بك قريبا.
Bog aan la aqoon