Arnabka Ka Baxsan Koofiyadda
الأرنب خارج القبعة
Noocyada
كتابي الأول
مثل شخص عثر على كنز صغير، مثل «أودري تاتو» عندما عثرت على صندوق الأسرار الصغير في فيلم «إميلي»، عندما سقط حجر من جانب الجدار فظهر الصندوق في مخبئه، هكذا نظرت إلى الكتاب الذي وجدته - ولا أعرف كيف أو من أين جاء - في أحد رفوف المكتبة مجددا.
ربما لم يسمع باسم الكتاب كثيرون، أو ربما لن يلفت انتباه الكثيرين أو يدفع أحدا للبحث عنه، لكنه يهمني بصفة شخصية؛ ربما لأنه هو من فتح أمامي عالم السحر والجمال والخديعة (التي اسمها الكتابة) كاملا؛ ففور أن قرأته أول مرة - قبل ربع قرن - وجدت مستقبلي يتشكل أمامي، ووجدت عالم الكتابة ماثلا بالكامل.
لا أذكر كيف وصلني الكتاب، لكنني أذكر نفسي وأنا أسير في شوارع قريتنا، وفي يدي كتاب «فوانيس الحياة»، للصحافي الراحل «علي أمين»، وعيناي تلتهمان صفحات الكتاب مرة تلو المرة. ما أذكره أنني قرأت الكتاب عشرات المرات حتى كدت أحفظه. كان كتابي الأول الذي تخيلت جميع حكاياته، وجميع تفاصيله، ورأيت نفسي بطلا لجميع مغامراته، ورددت مقولات مؤلفه داخل نفسي مرة تلو مرة.
لا أعرف كيف وصلني الكتاب وقتها في قريتي؛ فمعظم الكتب التي كانت تصل إلينا لم تكن من هذه النوعية، كما أن الكتاب كان صادرا عن «دار الشروق» التي لا تصل إصداراتها إلى الصعيد. كثيرا ما فكرت في كيفية وصول الكتب إلي، ولم أصل لحل غير أنني ربما اشتريته من بائع كتب قديمة. وكما وصلني الكتاب فجأة، اختفى فجأة بعدها بشهور قليلة، وكما اختفى فجأة وجدته فجأة قبل حوالي عامين وسط مكتبتي، وهو ما أدهشني أكثر، خاصة أنني تنقلت بين أكثر من عشرة بيوت خلال تلك الفترة، وفي كل مرة أحمل كتبي معي، وفي كل مرة أتخلص من بعضها حتى أستطيع أن أحتفظ بكتب أخرى، أو أستبدل بكتبي كتبا أحدث.
لم يكن «فوانيس الحياة» أول ما قرأت في حياتي، لكنه أول كتاب أذكر أنني قرأته؛ لذا أعتبره كتابي الأول، أعتبره «الفانوس» الذي أضاء لي حياتي فيما بعد. يبدو الكتاب موجها للصبيان، ومزينا برسوم صغيرة للرسام الراحل «مصطفى حسين»، وعلى صفحته الأولى تظهر صورة «علي أمين» المميزة، بصلعته والسيجارة الساقطة من فمه. كما يبدو محتوى الكتاب تجميعا لمقالات نشرها المؤلف في إصدار ما خاص بالأطفال، ثم ضمها بين دفتي هذا الكتاب.
أجمل ما يميز هذا الكتاب هو أنه يحرض على الحلم، خاصة أنه يتحدث عن أحلام مؤلفه عندما كان صغيرا، وكيف تحققت بالمثابرة والعمل والإصرار، يدلل على ذلك بالحكاية تلو الأخرى، مبطنا حكاياته بنصائح لا تشعر بها، مستخدما أسلوبه الشهير البسيط، وجمله السلسة القصيرة الواصلة إلى المعنى مباشرة؛ ففي إحدى حكايات الكتاب يروي أن أمنيته كانت الحصول على حديث من الكاتب الكبير «برنارد شو»، ولما سافر - أي علي أمين - إلى لندن قال له أصدقاؤه الصحافيون إن «برنارد شو» يرفض إعطاء أحاديث، لكنه لم ييأس وذهب إلى بيت «برنارد شو» الريفي وجلس يراقب الباب، ولاحظ أن للكاتب خادمة ترد على الجرس، ثم لاحظ أنها تطلق في بعض الأحيان صفارة يظهر بعدها الكاتب، وعرف أن الصفارة هي كلمة السر بين الكاتب والخادمة؛ فقرر «علي أمين» أن يشتري صفارة، وذهب إلى بيت «برنارد شو» ونفخ في الصفارة، وإذا بالكاتب الكبير يظهر أمامه، وما إن رآه حتى أغرق في الضحك وهنأه على سرعة بديهته، وأجاب بخط يده على كل الأسئلة التي قدمها له، ويختم «علي أمين» حاثا على المثابرة، وعدم الاستسلام، والبحث عن حلول جديدة؛ بالقول: إن «في الحياة صفارات كثيرة لو أنصت لها، تستطيع أن تفتح بها الأبواب المغلقة.»
ويظهر في كتاب «علي أمين» عشرات الأشخاص المشاهير الذين قابلهم في طفولته، بداية من «أم كلثوم» إلى «عبد الوهاب» و«طلعت حرب» و«سيد جلال»، و«أحمد شوقي»، الذي يروي كيف كان يعامله «سعد زغلول» باحترام شديد، بالإضافة إلى أم المصريين «صفية زغلول»، خاصة أن عليا ومصطفى أمين تربيا في «بيت الأمة»، وأول من نادى بتحرير المرأة «قاسم أمين» وزوجته، التي يصفها المؤلف بأنها كانت سيدة رقيقة ظريفة محافظة، و«التجديد الوحيد الذي رأيته منها هو أنها كانت تصر على أكل البامية مع البطيخ!»
ربما أجبت على معلم لي بعد قراءتي الكتاب لأول مرة بسنتين عما أريد أن أكون عندما أكبر ب: «صحافي» - في قرية لا تعرف هذه المهنة! - تأسيا بحديث «علي أمين» في كتابه ذلك، وربما قمت بكتابة «مجلة» وتصويرها وتوزيعها وأنا في الصف الرابع الابتدائي افتتانا بحديثه عن مجلة «التلميذ» التي أنشأها مع شقيقه «مصطفى أمين»، وربما هو ما أضاء لي بصيصا من النور في هذا الطريق الذي غير مستقبلي بأكمله؛ إذ يروي أنه قرر وهو في السابعة من عمره أن يكون صحافيا، فكان يقرأ كل الصحف والمجلات، ويحاول أن يقلد الكتاب الذين يعجبونه، وكتب مئات القصص والمقالات وأرسلها إلى كل الصحف والمجلات، فلم تر النور مقالة واحدة، وتصور أن مصلحة البريد هي المسئولة عن عدم وصول قصصه إلى الصحف والمجلات، وذهب بنفسه إلى هذه الصحف وحاول أن يقابل رؤساء التحرير، فكان البواب يمنعه من الدخول لأنه يرتدي بنطلونا قصيرا، ولما لبس بنطلونا طويلا منعه سكرتير التحرير من الدخول. لكن كل هذه الأبواب المغلقة لم تحوله عن حبه للصحافة، بل زادته إصرارا. وأخيرا اقترح «مصطفى أمين» أن يبحثا عن رجل بشوارب يثير احترام سكرتيري رؤساء التحرير ويكلفانه بتقديم مقالاتهما، ووجدا «حسن أفندي» الذي كان ينشر القصص والمقالات باسمه، حتى لمع اسمه في الصحافة وصارت المجلات تتخاطفه. وهكذا عمل «علي أمين» سبع سنوات في الصحافة دون أن يتقاضى مليما، ثم سبع سنوات أخرى دون أن يظهر اسمه في الصحافة، لكنه استرد ذلك كله فيما بعد، وأصبح واحدا من أشهر صحافيي مصر والعالم العربي.
وقصة الأسماء المستعارة والصحافة تتكرر في حكايات «علي أمين» الشائقة، فيحكي أن أمه كانت ترفض أن يدخل عالم الصحافة؛ لأنها - أي الصحافة - كانت وظيفة الساقطين في الامتحانات والمطرودين من الوظائف المحترمة والبلطجية؛ لذا قرر دراسة الهندسة في إنجلترا، وحصل على الشهادة، واشتغل مهندسا أمام أمه، لكنه كان في الخفاء يعمل محررا في مجلة «آخر ساعة»، بعد الظهر وحتى منتصف الليل. ولم تكن هناك وسيلة لإقناع أمه بأن الصحافة وظيفة الشبان المتعلمين لا الساقطين، وأنها وظيفة المحترمين وليس غير المحترمين، إلا أن يقنع حملة الشهادات العليا بالعمل صحافيين. وبعد سنوات، بعد أن رأت والدته أن بعض الوزراء يتمنون أن يصبحوا صحافيين، ورأت راتب رئيس التحرير يرتفع من خمسين جنيها في الشهر إلى ستمائة جنيه؛ أحبت الصحافة، فاستقال من وظيفته الحكومية ووضع على مقالاته لأول مرة توقيع «علي أمين»، بعد أن ظل خمسة عشر عاما يوقع باسم «السندباد البحري».
Bog aan la aqoon