Arnabka Ka Baxsan Koofiyadda
الأرنب خارج القبعة
Noocyada
في أحد المشاهد الدالة في فيلم «بؤس
Misery » المأخوذ عن قصة لستيفن كينج، وأخرجه روب رينر في عام 1990م، تجبر إحدى القارئات كاتبها المفضل على أن يحرق مسودة كتابه الأخير؛ لأنه لم يعجبها ، ورغم محاولته إقناعها أن الكتاب لم يطبعه أحد، ولن يقرأه أحد، فإنها أجبرته على ذلك كنوع من التطهر - تحت التهديد - لأن الكتاب يحمل أفكارا يجب ألا يخطها كاتبها المفضل.
لا يختلف هذا المشهد كثيرا عن مشاهد نقرأ عنها يوميا أو نراها، لقراء أو متابعين ومحبين وصحافيين، قرروا أن يجردوا كاتبا أو مغنيا أو فنانا من موهبته التي احتفوا بها قبلا على مدار السنوات؛ لأنه اختلف معهم فكريا، أو لأنه قدم عملا لم يعجبهم، وكأن الموهبة صارت مرهونة بموقف واحد، وليس بنتاج إبداعي على مدار سنوات، وكأن العمل الفني الأخير يشبه ممحاة تمحو ما قبلها.
فعل التطهر الذي فكرت فيه بطلة الفيلم المتدينة، في إشارة إلى الدوجما الدينية - أو السياسية في حالات مشابهة - لا يختلف عن فعل التطهر الذي يفكر فيه القارئ الذي يمحو تاريخ مبدعه المفضل بكلمة واحدة. لكن التطهر هنا يعود على القارئ وليس الكاتب؛ إذ إنه في محاولة للتحرر من تأثير الكاتب عليه طوال السنوات الماضية ودوره في تشكيل وجدانه وفكره وذكرياته، يقوم بمحو الكاتب أو المبدع من الوجود، أو اعتباره كأنه لم يكن، أو اعتبار أن كل ما كتبه هراء، وكأن القارئ يريد أن يقول لنفسه هنا: «إنه ليس شيئا، لم يؤثر في من قبل، إنه ميت، لم يقدم عملا مهما في حياته.» وهكذا تتوالى محاولات النفي لوجوده ولإبداعه.
وإذا كان الأمر يتعلق بشكل أساسي بنظرتنا أو فهمنا لمفهوم «الاختلاف»، و«الآخر»، و«الحرية الشخصية»، فإنه يتعلق أيضا بنظرتنا إلى المبدع بشكل عام، والربط بين الشخصي والإبداعي؛ بين ذات الكاتب كإنسان يمكن أن يخطئ، وبين نظرتنا له كمبدع يقدم أعمالا فنية يجب أن نقرأها وننقدها وفق معايير فنية محددة، وهو ما يجعل الكثيرين يسقطون أمرا على الآخر؛ أي يحاسبون مبدعا فنيا بسبب مواقفه السياسية، أو يجعلون فنانا ضعيفا رمزا فنيا بسبب ذات المواقف، مع أن ما يبقى مع الزمن هو الفن، والفن فقط، لا الحكم الآني الانفعالي المجامل.
ولو نظرنا إلى التاريخ لوجدنا أن عددا كبيرا من أبرز الكتاب لم يكونوا يشبهون الصورة الملائكية التي نرسمها لكل من امتلك موهبة؛ فالكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل «جونتر جراس» خدم في منظمة «فافن إس إس» النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والفنان «مايكل دوجلاس» قاد حملة تبرعات لبناء عدة مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والشاعر «آرثر رامبو» عمل في تجارة الرقيق والسلاح، أما الشاعر المهم «عزرا باوند» فقد عمل في راديو الفاشية الإيطالية التابع للديكتاتور موسوليني أثناء الحرب العالمية الثانية. وحتى لو نظرنا إلى ترشح الروائي البيروفي «ماريو بارغاس يوسا» للرئاسة في بلاده أكثر من مرة، ألا يضعه هذا في معسكر الكراهية من الطرف الآخر؟ أما تاريخ الشعر العربي فجله قائم على المديح مقابل المال؛ فأنت لا يمكن أن تنظر إلى شاعر العرب الأكبر «المتنبي» - إنسانيا - دون توجيه تهمة الانتهازية السياسية له وكتابة الشعر مقابل المال؛ ولهذا تارة يمدح كافور الإخشيدي وتارة يهجوه، لكن هل يجرده هذا من موهبته؟
في النهاية تذهب كل هذه التفاصيل الحياتية، ولا يبقى سوى الفن. فلا بد أن من يقرأ رامبو أو المتنبي أو عزرا باوند، بعد عشرات السنوات لن يهتم كثيرا بمواقفهم، لن يتوقف كثيرا إلا أمام صورة شعرية رائعة في قصيدة ما، حتى لو كانت القصيدة مصنوعة.
وفي فيلم «بؤس
Misery » الذي قام ببطولته «جيمس كان» و«كاثي بيتس» التي حازت عن دورها في الفيلم جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة، نحن أمام كاتب شهير يتعرض لحادث فتنقذه قارئة مهووسة بكتاباته، ثم تعزله عن العالم لكي يكون لها وحدها فقط، وتكسر قدميه حتى لا يغادر البيت، وتحرق مسودة الرواية التي كتبها لأنها لا تتفق مع أفكارها! وتكاد مرة أخرى تحطم رأسه لأنه أنهى حياة بطلتها المفضلة في رواية أخرى، وتجبره على كتابة رواية جديدة يعيد فيها البطلة إلى الحياة، وفي النهاية تحاول قتله وقتل نفسها! وإذا رأى البعض أن هذه المشاهد تبدو خيالية، فإن الحقيقة هي أنه يمكن إسقاطها على الواقع بسهولة شديدة؛ فالقارئ أو المعجب يريد فنانه له وحده، منحازا لقضاياه، وإلا فإنه سيقتله في النهاية، دون أن يضع في الاعتبار أن للكاتب آراءه الخاصة التي قد تتغير أو تتطور، بحكم السن وبحكم الخبرة وبحكم فرضية الخطأ والصواب أيضا التي نعيش تحت مظلتها جميعا.
وفي مشهد ختامي من الفيلم، يحرق الكاتب الرواية التي كتبها لإسعاد قارئته المهووسة، كما أجبرته على إحراق كتابه المفضل من قبل، داعيا إياها أن تجرب ما شعر به عندما أجبرته على إحراق آخر أفكاره (مسودته) التي آمن بها، وهذا المشهد يطرح لب القضية: هل يكون الكاتب أمينا مع أفكاره وتطورها - سواء أكانت صحيحة أم خاطئة - أم ينجرف وراء ما يعجب القارئ فقط، من أجل مزيد من الإعجاب؟
Bog aan la aqoon