قال: «سأستخيرهن في مكان يخترنه غير هذا المكان، وإذا رأين الخروج من الحصن فإني أرسل معهن من يوصلهن إلى حيث شئن.»
ثم أمر أركاديوس بإخلاء مكان لهن بالقرب من الدير أقمن فيه، وعاد إلى صديقه فقال: «وأنت ماذا فعلت؟ هل أعددت العدة لجندك؟»
قال: «أعددت كل شيء تقريبا، ومتى جاء والدانا فإننا نتم تدبير الأمر، فمتى يأتيان؟»
فقال أركاديوس: «أما أبي فأظنه يصل إلى الحصن غدا، وأما أبوك فلا أدري يوم مجيئه، ولا ريب أنك أعلم مني بأمره، ولا أراه إلا مترددا في شأن هذه الحرب، ولم يغرني منه التظاهر بالاستعداد وإدخالك في هذه الحملة، ولا أنه يوناني الأصل ، فإن ماضي أعماله يخالف كل ذلك؛ فهو قبطي المشرب قائم بدعوة الوطنيين، لا يريد سلطانا عليهم.»
فوقف أرسطوليس بغتة وهو يحاول دفع هذه التهمة عن أبيه فقال: «كيف تقول ذلك وأبي أول مدافع عن دولتنا، فحالما سمع بقدوم العدو أخذ في التأهب للدفاع، ووجودي في جندكم أكبر دليل على رغبته هذه؟»
فتبسم أركاديوس مستخفا بتلك الحجة، وقال له: «مهلا أيها الصديق، فأنت تعلم حبي لك، ولا تجهل أني أحترم قدر أبيك، ولا أنكر عليك تحامل رجالنا ودولتنا على جماعة الأقباط، وما أنا بناس نفورهم؛ لأن نفور أصحاب البلاد من فاتحيها أمر طبيعي لا مفر منه، وبخاصة إذا لقوا منهم ما لقي أهل مصر من تحامل بعض حكامنا، وما سبب ذلك إلا الاختلاف في المذهب الديني الذي تعلمه، ولكنني لا أسلم بأن والدك المقوقس غير قائل بقولهم، وأنه يود من صميم فؤاده خروج هذه البلاد من حوزتنا ودخولها في حوزة غيرنا مهما يكن جنسهم. أما دخولك في جندنا فلا تتخذه حجة لدفع هذه التهمة عنه، بل قد يكون مؤيدا لها، ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ فسوف يظهر الحق ويزهق الباطل. أما نحن فسندافع عن هذه البلاد جهد طاقتنا إلى آخر نسمة من حياتنا، وفي أيدينا أوامر مشددة بالمحافظة على هذا الحصن ودفع العرب عنه، وأظنهم يحسبون الظروف تساعدهم هنا كما ساعدتهم في بلاد الشام وبيت المقدس، ولو كان في رءوس حامية تلك البلاد الشهامة الرومانية ما سلموا منها حجرا، ولكنهم فسدوا وغدروا، ولم يكن عندهم مثل هذا الحصن المنيع ولا رجال مثل رجالنا.» قال ذلك وكأنه شعر بما يتخلل عبارته هذه من الحدة فصمت برهة ريثما خفت حدته، ثم عاد فخاطب أرسطوليس قائلا: «أخبرني الآن هل أنفذت الرجال لعمل التحصينات كما أخبرتك؟»
قال أرسطوليس: «وقد بدءوا بعملها منذ وصولنا، ولكنهم ناموا الآن التماسا للراحة، ولا يقبل الصباح إلا وهم قيام على إتمامها، وقد جئت بكل معدات التحصين وفي جملتها حسك الحديد لنبذره في قنوات الخندق فلا يستطيع البدوي عبوره قبل أن تدمى قدماه ويعجز عن المشي، هذا إذا لم نقتله بسهامنا عند الأسوار قبل وصوله إلى الخندق.»
فقال أركاديوس: «وأين هم الأعداء الآن؟»
قال: «أنبأنا الجواسيس أنهم قاموا من العريش بعدتهم ورجالهم، ولكن دون وصولهم إلى هذا الحصن خرط القتاد.»
وكان أرسطوليس عالما بمقاصد أبيه حق العلم، وقد تحقق أن الحامية لا يمكنها دفع العرب، وكان يحب أركاديوس كثيرا فأراد أن يكاشفه بذلك لئلا يكون في جملة من تقع عليهم المكيدة، ولكنه خاف افتضاح الأمر قبل أوانه فتضيع أعمال والده سدى فأبقاه مكتوما إلى حين، ونهض فودع صديقه وخرج يلتمس الرقاد بقية ذلك الليل فودعه أركاديوس وعاد إلى مقعده فعادت إليه هواجسه.
Bog aan la aqoon