قال مرقس: «نعم يا مولاتي، ولكنه حريص على حياته، والله حارس له.»
فنظرت إلى بربارة وقالت لها: «ألم يقسم لي أنه لن يشهد حربا؟»
فقال مرقس: «العفو يا سيدتي، وما الذي يفعله وقد رأى نفسه وحيدا وأنت مع سيدي المقوقس؟»
فقالت والدمع يكاد يتناثر من عينيها: «نعم إن الذنب ذنبي. نعم أنا تركته وهو لم يتركني.» وحولت وجهها فأدرك مرقس أنها تريد الاختلاء ببربارة فخرج من الغرفة، فما كاد يخرج حتى أطلقت سراح دموعها وقالت: «لقد ارتكبت ذنبا كبيرا، ولكن ما العمل؟! آه ماذا أفعل؟ أكنت أترك أبي وأهجر بيته، وقد رباني وكفلني وأحبني وترك كل شيء من أجلي؟ آه! آه ...» وأجهشت في البكاء ثم قالت: «ولكن أركاديوس. أركاديوس حبيبي ...» وكانت بربارة مطرقة تفكر صامتة، فلما قالت أرمانوسة: «حبيبي» رفعت رأسها وقالت: «بل هو الآن أقرب حبيب.» فأدركت أنها تذكرها باقترانهما، وأنه أصبح زوجها، فقالت: «نعم إنه أقرب من الحبيب وألصق من الأخ وأعز من الروح.»
فقالت بربارة بصوت منخفض: «بل هو أقرب من الأب، تذكري قول الكتاب المقدس.» فعلمت أنها تذكرها بأمر الكتاب القائل: «يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته.» فقالت لها: «ولكنك لا تجهلين يا بربارة أن إكرام الوالدين من وصايا الله العشر.» فأفحمت بربارة وصمتت، ثم قالت: «هلم يا سيدتي إلى الاغتسال وتبديل الثياب والاستراحة من وعثاء السفر، وأنا أضمن لك الراحة، وهي لا تكون إلا بالوفاق بين والدك وعريسك، وعلى الله التوفيق.» فلما سمعت أرمانوسة قولها أشرق وجهها، ولكنها استبعدت ذلك الوفاق وظلت صامتة، ثم تحولت إلى حجرتها وخدم المنزل ينتظرون أوامرها.
أما مرقس فظل في حديقة المنزل ينتظر إشارة أرمانوسة حتى خرجت بربارة وأوصته بأن يذهب إلى الإسكندرية ويحتال في الدخول على أركاديوس ويطمئنه على أرمانوسة ثم يعود فيطمئنها عليه.
فاستراح بقية ذلك اليوم، وأصبح في اليوم التالي فلبس لباس الروم وحمل بيده علما أحمر كان أركاديوس قد أوصاه بحمله ليعرفه به عن بعد فيدعوه إليه، فلما أطل على أسوار الإسكندرية وقف على مرتفع فأشرف على المدينة وقصورها، ووراءها بحر الروم يرغي ويزبد، وقد علا هديره، ووقف الجند على الأسوار في مراميهم وأبراجهم، وخفقت الأعلام فوق رءوسهم، فهاله منظرهم، وخاف أن يرميه أحدهم بنبل أو سهم، فسار مبتعدا على حذر حتى أتى الموضع الذي عينه له أركاديوس، ولم يكد يقف هناك هنيهة حتى رأى رجلا خارجا من المدينة يناديه، فأسرع إليه فإذا هو رسول أركاديوس في انتظاره ليأتي به إليه فدخلا المدينة، ولم تكن هذه أول مرة دخل فيها الإسكندرية، ولكنه رأى فيها هذه المرة غير ما عهده، فقد تزاحمت الأقدام، لما تقاطر إليها من جالية الروم من سكان وادي النيل بعد فتح الحصن، فازدحمت أسواقها بهم ولا سيما سوق المأكولات والمشروبات، ومشى يتأمل المساكن وحال الناس من الاضطراب، فوصل إلى منزل عرف أنه منزل يحيى النحوي وكان قد سمع حديثه من زياد العربي، فأحب أن يراه لأنه على رأي المقوقس فسأل رفيقه قائلا: «أليس هذا بيت يحيى النحوي؟»
قال: «بلى، هذا هو بعينه، ولكنه ليس هنا الآن، فقد هجر الإسكندرية منذ اضطهده القوم أكثر من ذي قبل.» فقال: «وإلى أين ذهب؟» قال: «لا أدري، لعله يقيم في بعض الأديار أو بعض المكتبات.»
ثم مل مرقس السير فقال: «إلى أين نحن ذاهبان؟» قال: «نذهب إلى القائد أركاديوس.»
قال: «وأين هو؟» قال: «هو في الملعب مع سائر القواد يلعبون بالأكر ترويضا لأجسامهم، وكذلك يفعلون في كل صباح.»
Bog aan la aqoon