وقبل أن يفعل شيئا آخر، اتجه إلى الباب، واطمأن من جديد إلى خلو الطريق، وعاد إلى التلافون، وأمسك السماعة بقوة، ثم رفعها قليلا قليلا في حرص شديد. واستغرب حين وجدها ثقيلة كرطل الحديد، وكلما ثقلت يده بها، دق قلبه، وسال العرق من يده، ونسي الابتسامة التي لا يدري متى علقها فوق وجهه.
وأصبحت السماعة أخيرا في حوزة قبضته بعيدة عن الصندوق، فقلبها على ظهرها وبطنها أمام عينيه، وأعجبه الثقب الذي في أسفلها، ووضعها تحت طاقتي أنفه وشمها، فلمح فيها رائحة عرق الشيخ عبد المعطي التي يعرفها جيدا، وتعرفها معه كل بلدهم ميت غنيم.
ثم، ثم وضع السماعة فوق أذنه، حتى التحمت بها، وحملق في الحائط الذي تساقط طلاؤه، وهو يسمع هديرا عجيبا كدوي وابور الحرث البعيد، وبعد أن زالت صدمته الأولى تسربت إلى أذنه من وسط الهدير أصوات كنقيق الضفادع، فكز على أسنانه، ونقل السماعة بسرعة إلى أذنه الثانية، وكتم أنفاسه حتى لا يفوته شيء.
وانتشى.
فقد استطاع بعد جهد أن يميز صوتا يقول: أيوه يا سيدي، وأصوات كثيرة أخرى ترد عليه، ثم تبعد كلها، وتختلط، ولا يربطها في رأسه إلا دوي وابور الحرث الذي بدأ يدير رأسه، ولا ينعشه إلا صوت رفيع ممدود يقول بين الحين والحين: ألووه، يا أخينا ألوووه.
وتبين بعد عناء كبير، وبعد أن تلاحقت أنفاسه، وابتلع ريقه مرات أن نقيقا يقول من بعيد جدا: يا مركز، فيرد عليه آخر له بحة كحشرجة أم سليمان.
وما اهتم البرعي بمسألة في حياته قدر اهتمامه بمعرفة كل ما يقولون، فأمسك السماعة بكلتا يديه وضمها بشدة إلى أذنه.
وكاد يقهقه وكأن الأصوات تزغزغه، وأحس أنه سعيد، وأنه يستطيع عمل أي شيء، وأنه هو الآخر ممكن أن يمط صوته، ويطيل عنقه، ويقول: يا مركز.
وقالها فعلا في سره، ثم همس بها بينه وبين نفسه، وكأنها الفاتحة يقرؤها.
وحين اطمأن إلى أن حادثا لم يحدث بعد همسه، اجتاحته نوبة عاتية من الجرأة السعيدة، وزعق وقال: طب هه، يا مركز، يا واد يا مركز.
Bog aan la aqoon