لقد أضناه التفكير فيها، ماذا كانت تفعل يا ترى حين عاد مرة إلى البيت ولم يجدها، قالت له يومها: إنها كانت عند أم حميدة، أم حميدة، أم حميدة الصعيدية، وأخوها مهني، الولد الذي يلبس السكروتة المكوية التي تظهر أفخاذه، ويعقص الطاقية، ماذا كانت تفعل عند أم حميدة؟
ويوم أن ضبطها تطل من الشباك بلا منديل، بنت الكلب، وبلا منديل!
وهكذا اعتاد التأخر في العودة بعد أن أدمن على باب طنطاوي، وعاد مرة في شيخوخة الليل، وارتدى جلبابه الأبيض، وأحكم طاقيته الصوف فوق رأسه، وفرش جسده المنهك المخدر فوق السرير، وأصوات اليوم تطن في أذنه، وحديث طنطاوي ينبثق في مخيلته، ثم يختفي.
وتبين بعد أن خف الطنين وغاب طنطاوي أن امرأته لا زالت مستيقظة، ليس هذا فقط، بل إنها تنهنه بنحيب مبتل، وكان رمضان ليلتها قد بلغ به الأمر منتهاه، ووصل إلى حافة مقاومته، فظل بكاء المرأة يتساقط على الحاجز الجامد الذي وضعه بينهما فيلعقه، والحاجز يرق، حتى لم يعد يفصله عنها إلا اللحاف، وظل ينصت لبكائها، وهو لا يملك إلا الصمت، حتى انهار، وقال وكل جزء من جسده ينشج بغير دموع: بس قوليلي يا نعيمة، أعمل إيه؟
ولم ترد، وإنما كانت تحملها شهقة وتضعها شهقة، وقد انخرطت في بكاء عال.
وهزها رمضان في حنان ذليل، وعاد يسألها. وما كان ينتظر منها شيئا، وإنما ألحف في سؤالها ليغلب عجزه ويشرك إنسانا على الأقل في حل لغزه. •••
وبدأ البحث عما يفعله الناس، وبدأ السؤال، وفتح رمضان الكتاب، والتمس حل عقاله عند أصحاب الحل والربط، وزار أسياد البلد كلهم، وأطعمته نعيمة الحمام والمنجة من توفيرها، ومص زعازيع القصب، وترنح على دفة الطار في الزار، واستيقظ مع الفجر مرات ليرمي العمل في البحر، وسوت له امرأته الفطير مختلطا بدمائها، وتجرع من العطار كل ما عند العطار.
وفي كل مرة كان يعود وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
ثم عرف رمضان الطريق إلى المستشفى السري، وتعرف في طابور المرضى على رفاقه، وآنسته الصحبة بقدر ما امتلأ الكيس الذي خيطته له نعيمة بزجاجات الدواء، وفرغ الكيس وامتلأ، وانغرزت الإبر في عروقه وفي عضلاته، ودخل المستشفى وخرج.
وجاءت حماته ومعها بعض النقود، وراحت النقود كما راحت غيرها، ولم تفرغ مشورات الحماة ونصائحها ولا آراء الأهل وأطراف الأهل.
Bog aan la aqoon