وهم رمضان أن ينطق، وكادت الكلمة تغادر فمه، ولكنه لحق نفسه، وابتلع الكلمة، وابتلع معها ريقه الجاف. وحين جره الطنطاوي من يده عاد حذاؤه يقرع الطريق مرة أخرى. •••
ولم ينفع الحشيش، أبدا.
وعاش رمضان بعد لياليها صامتا، لا يتحدث إلا حين يمد إنسان يده، فيستخرج من جوفه كلاما كالعصارة الفاسدة لا نكهة له ولا معنى، وإنما هو مزيج من الضجر والتبرم يعكره سخط غامق بليد، وامرأته تتكلم، وتكثر من الكلام، وهو لا يتحرك. وعمله في الميدان أصبح علقما يشربه في بطء الساعات التي يقضيها نصف واقف، وتحيته التي طالما انتفض بها لرؤسائه في مرورهم تضاءلت ووهنت، وأصبح ينتزعها من جسده كما ينتزع الناب الفاسد. وأصبح يتخبط في حبل طويل من الأكاذيب التي يقصها على الطبيب، فيمنحه اليوم أو اليومين إجازة يقضيها حيث لا يقضيها.
وعمره ما عاد لبيته إلا ويده مشغولة بشيء، ولو بربطة فجل، فصار يعود ويده خاوية تتأرجح بجانبه، وكأنها ليست من جسده.
وفي ذات عودة، سلم على حماته، وكانت قد حضرت لتوها، وتندى جبين امرأته لبروده وعدم مبالاته، وأكلت النيران قلبها وحديثه لأمها لا يخرج عن: إزيك، سلامات، ثم صمت طويل من صمته البارد، تعقبه سلامات أخرى، حتى ضاقت الضيفة فلم تكد تلهف صلاة العشاء، حتى تمددت على السرير، وهي تئز بآهاتها، وتشكو من مفاصلها.
ولم تمض ساعة حتى كان ممددا بجانب ابنه وامرأته على الحصيرة تحت أقدام الفراش.
وأيقظته حماته حين عثرت به لما قامت تتوضأ قبل الفجر، وحين كانت تخطئ كعادتها وهي تقرأ الفاتحة بصوتها الخشن، كان يسأل نفسه بعدم اكتراث، ترى ما الذي جاء بها؟
وكان الجواب ينتظره في المساء حين تنحنحت الحاجة بعد العشاء، وقد تربعت على الأرض، وأسندت ظهرها إلى الحائط، وانتهت من إحاطة نفسها ورقبتها وصدرها بالمحرمة الكبيرة البيضاء، وبدأت تقول بصوتها المبحوح: بقى يا بني ما خبيش عليك.
والحق أنها أخفت عنه الخطاب الذي أرسلته لها ابنتها من ورائه، وإنما راحت تسوق له القصة في حنكة العجائز. وكام صمته هو الذي شجعها على أخذها دور أمه وأخته، ثم ناصحته حين قالت: وكل عقدة وليها يا ابني حلال، ألف حلال.
عقدة ماذا؟ وحلال إيه؟ وماذا جاء بك؟ ومالك أنت وما أضناك يا ابنة المركوب؟ وبدأت اللعنات التي تنهال من داخله إلى داخله تصنع بصابيص النار التي ألهبت ثورته، فحتى هذه اللحظة لم يكن قد أدخل امرأته في المسألة، ولم يعترض وجودها وشعورها ورأيها طريقه، وهو يترنح في الخرابة وحده، إنه ليس وحده، ومن يدري كم معه الآن؟
Bog aan la aqoon