Aram Dimishiq Wa Israa'iil
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
Noocyada
فإذا أضفنا إلى ذلك أن النصوص الآشورية - التي أعطتنا معلومات تفصيلية عن الدول المهمة التي قامت في بلاد الشام خلال القرن العاشر - قد تجاهلت أيضا قيام مملكة قوية في فلسطين وصلت مناطق نفوذها إلى الفرات، وتجاهلت وجود ملك عليها طبقت شهرته الآفاق اسمه سليمان، يأتي إليه ملوك الأرض لتقديم الطاعة والولاء والاستماع إلى حكمته؛ لتوصلنا إلى نتيجة واحدة، فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة إلا في خيال المحرر التوراتي. والكلمة الفصل في ذلك ستكون لعلم الآثار. فماذا يقول علم الآثار في مسألة المملكة الموحدة لكل إسرائيل، من بعد قرن كامل على بداية عملية التنقيب في فلسطين، وخصوصا في موقع أورشليم، مفتاحنا إلى اللغز؟
عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم توجه المنقبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثم تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على الجزء الجنوبي من سلسلة تلال القدس الشرقية، التي يشغل جزؤها الأوسط الحرم الشريف، ويدخل جزؤها الشمالي ضمن الحدود التقليدية لمدينة القدس. وقد راوحت عمليات التنقيب في مكانها زمنا طويلا، إلى أن باشرت حملة المنقبة البريطانية السيدة كاثلين كينيون أعمالها في مطلع ستينيات القرن العشرين، وكشفت عن كل ما يمكن الكشف عنه في موقع أورشليم العصور القديمة وموقع الهيكل.
ففيما يتعلق بموقع أورشليم، استطاعت المنقبة رسم حدود المدينة اليبوسية على التلال الشرقية، وكشفت عن أساسات سورها الذي يعود إلى حوالي عام 1800ق.م.، وهو تاريخ بناء أورشليم لأول مرة كمدينة مسورة (انظر الخريطة). وقد لاحظت السيدة كينيون آثار إصلاحات متتالية على هذا السور أبقته قائما حتى دمار مدينة أورشليم عام 587ق.م. على يد البابليين، حيث وجدت المنقبة آثار تدمير شامل في السور وفي أبنية المدينة. إلا أن أعمق ما استطاعت عمليات التنقيب الوصول إليه هو أورشليم عصر نبوخذ نصر، أما المدينة السليمانية الأقدم، والعاصمة المفترضة للمملكة الموحدة، فلم يتم العثور على بنية واحدة من بناها، بسبب استخدام حجارتها لبناء الطبقات السكانية التي قامت فوقها. وبذلك تعطينا التنقيبات سورا يرجع إلى عام 1800ق.م. ومدينة ترجع إلى عام 587 ق.م.، أما ما بينهما فمفقود تماما. من هنا، فإن علم الآثار، كما تقول السيدة كينيون، لا يستطيع تقديم أية فكرة عن مدينة العصر الذهبي وثرائها، وعن قصور سليمان التي بناها له ولزوجاته. وتفترض المنقبة أن هذه القصور، إن وجدت، لا بد أن تكون قد أقيمت في المنطقة الشمالية خارج السور القديم للمدينة، بين السور الشمالي لها وسور الحرم الشريف؛ لأن المساحة الصغيرة للمدينة وازدحام بيوتها لا تسمح ببناء مثل تلك القصور الواسعة الأرجاء. وبما أن سور المدينة اليبوسية قد تم وصله بسور جديد يرجع تاريخ بنائه إلى القرن العاشر، وهو يكاد الآن أن يلامس سور الحرم الشريف (انظر الخريطة)، فإن المنقبة ترجح أن المدينة السكنية في القرن العاشر قد توسعت لتشمل المنطقة التي كانت خالية إبان الألف الثاني قبل الميلاد، وأنها قد ضمت القصور السكنية والإدارية للعاصمة السليمانية. وبما أن هذه المنطقة السكانية للقرن العاشر قد زالت مع زوال المدينة السليمانية، فإن المنقبة لا تستطيع إعطاء أية فكرة عن نوعية وطبيعة المنشآت التي قامت هنا.
15
أما فيما يتعلق بموقع هيكل سليمان، فقبل الدخول في التفاصيل الأركيولوجية، يستحسن إعطاء القارئ لمحة عن تاريخ هذا الهيكل. فمن المفترض أن الملك سليمان قد بنى الهيكل حوالي منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، خارج أسوار أورشليم في حقل أرنان اليبوسي الذي أقام فيه داود مذبحا للرب (راجع آخر قصة من قصص داود في عرضنا السابق). ومن المفترض أن هذا الهيكل قد استمر قائما إلى أن تم تدميره مع بقية المدينة على يد البابليين عام 587ق.م. بعد استيلاء قورش الفارسي على بابل وممتلكاتها جميعها، سمح هذا الملك بعودة الجماعات التي تم سبيها خلال العصر الآشوري والبابلي الجديد إلى مواطنها، وبينهم أولئك المسبيون من أورشليم عقب حملة نبوخذ نصر عليها، فعاد مسبيو أورشليم على عدة دفعات. وقد قاد الدفعة الثانية من العائدين المدعو زربابل الذي عينه الفرس واليا على المدينة. وتقول الرواية التوراتية في سفر عزرا بأن زربابل هذا هو الذي أعاد بناء هيكل سليمان المهدم في أورشليم (حوالي عام 520ق.م.) وقد دعي هذا الهيكل الجديد بهيكل زربابل أو بالهيكل الثاني، وبقي قائما إلى العصر الروماني. وعندما عين الرومان المدعو هيرود ملكا على أورشليم ومنطقة اليهودية في عام 37ق.م. قام بتوسيع هيكل زربابل والإضافة إليه حتى بلغت مساحته ضعف المساحة الأصلية. بقي هيكل هيرود قائما قرابة قرن من الزمان، ثم تم تدميره على يد الرومان مع بقية المدينة عام 70 ميلادية، وبقي موقعه خرابا إلى أن تم بناء المسجد الأقصى في مكانه في القرن السابع الميلادي. وقد استخدم المعماري الأموي أساسات سور هيرود نفسها لرفع سور المسجد الأقصى، كما استخدم الأرضيات القديمة فأقام عليها منشآت المسجد.
عثرت حملة السيدة كينيون على جزء لا بأس به من أساسات سور هيرود، الذي يرجع إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد. وقد ميزت المنقبة سور زربابل من سور هيرود اعتمادا على التقنية المستخدمة في نحت الأحجار، لا على أية بينة ستراتيغرافية مقنعة، فقد وجدت أن قسما من سور هيرود قد بني بحجارة استخدمت في نحت سطحها الخارجي تقنية معروفة في بعض البنى المعمارية التي ترجع في تاريخها إلى العصر الفارسي، فأرجعت هذا القسم من السور إلى العصر الفارسي، واعتبرته البقية الوحيدة الباقية من هيكل زربابل. أما هيكل القرن العاشر الذي بناه سليمان، وفقا للرواية التوراتية، فلم يتم العثور على حجر واحد من أساساته أو أي أثر يدل على أنه قد قام في يوم من الأيام. ومن الجدير بالذكر أن الحائط المدعو بحائط المبكى اليوم هو من الأجزاء الباقية من سور هيكل هيرود، أما البرج الوحيد القائم على السور والمدعو ببرج داود، فيرجع إلى فترة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد.
16
أما خارج مدينة أورشليم، وفيما عدا بعض المدن الكنعانية المهمة، مثل مجدو وحاصور وجازر، فإن التنقيبات الأثرية في المستويات العائدة للقرن العاشر قبل الميلاد لم تعثر على أية دلائل تشير إلى تقدم حضاري وازدهار اقتصادي في كل مكان من المناطق المفترضة للمملكة السليمانية. فأهل هذه المناطق كانوا يعيشون حياة فقيرة جدا وبسيطة إلى أبعد الحدود، وتدور ديانتهم حول آلهة الخصب الكنعانية التي عثر على العديد من مقاماتها وعلى تماثيل آلهتها.
17
خريطة أورشليم اليبوسية، وفق المنقبة كاثلين كينيون.
Bog aan la aqoon