Aram Dimishiq Wa Israa'iil
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
Noocyada
والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: إذا كان المجتمع الجديد في مقاطعة اليهودية قد أنشأته بقية المسبيين من يهوذا، فلماذا بنى كهنوت أورشليم قصة الأصول حول إسرائيل، وجعلوا من هذه البقية آخر من تبقى من سلالة بني إسرائيل؟ الجواب على هذا السؤال متشعب، ولكنني أود أن أطرح مبدئيا فكرة مفادها أننا لسنا متأكدين بالفعل من أن بناة المجتمع الجديد في أورشليم هم حصرا من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لأن مصدرنا الوحيد عن هذه المرحلة من الرواية التوراتية هو النص التوراتي وحده. ومن المرجح أن تكون الجماعات التي سيقت إلى أورشليم قد ضمت - إلى جانب بقية سبي يهوذا - شرائح من شعوب مسبية أخرى قد فقدت ارتباطها بمواطنها الأصلية، ولا تمانع من التوجه إلى أي منطقة مستفيدة من سياسة الإنعاش وإعادة البناء. كما نرجح أن تكون الإدارة الفارسية قد ضمت إلى هؤلاء في أورشليم جماعات كانت تعيش حياة البؤس والكفاف في المناطق الفلسطينية الأخرى التي آلت إلى الخراب. وبما أن دولة إسرائيل-السامرة كانت أقوى الدويلات الفلسطينية وأكثرها شهرة، وكان إلهها الرسمي يهوه أعلى الآلهة الفلسطينية شأنا؛ فقد تم إفهام جماعات العائدين والمرحلين إلى أورشليم الجديدة بأنهم ورثة مملكة إسرائيل، وأن إله السماء الفارسي هو الآن يهوه القديم في حلته العالمية الشمولية الجديدة.
9
لقد هدفت سياسة الترحيل الآشورية إلى التخريب المنظم للبنى التحتية للمقاطعات المقهورة، وسيقت إلى مناطق آشور الشرائح المتنورة في هذه المقاطعات، واليد الفنية الماهرة والكتاب والمعلمون والكهنة والعسكريون المدربون، أي كل الشرائح التي تعطي للمجتمع هيكليته وتطلق فعاليته. وقد طالت عمليات الترحيل في كثير من الأحيان مناطق زراعية بأكملها، فتركت بوادي قاحلة لفترة طويلة لاحقة. أما المقاطعات التي تم الحفاظ على هيكليتها السياسية فقد تم استغلالها إلى أبعد الحدود، وخضعت للنهب المنظم عن طريق الجزية، وعن طريق سلب مواردها الطبيعية، ودفع إليها بجماعات مسبية غريبة لتقيم بين ظهرانيها وتفتت وحدتها الإثنية. وفيما يتعلق بفلسطين، فقد خلت بعض مناطقها من السكان تماما، وتضاءل عدد السكان في المناطق الأخرى وآلت إلى الفقر المدقع. ومنذ نهاية القرن السادس افتقدت فلسطين إلى الحد الأدنى من التلاحم الإثني واللغوي والديني والسياسي، وتوزع من تبقى من سكانها بين جماعات غير متجانسة سيقوا إليها من المناطق المغلوبة الأخرى.
وبما أننا لا نعرف عن أي مشروع فارسي آخر للإحياء في منطقة فلسطين، غير مشروع إحياء أورشليم، فإننا نرجح أن يكون الهدف منه هو تجميع تلك الجماعات المتفرقة ذات الأصول العرقية المختلفة التي بقيت خارج الأطر السياسية والاجتماعية في عالم متهدم تماما، إضافة إلى من يود العودة من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لصهرها في بوتقة واحدة، وإفهامها بأنها الآن وريثة إسرائيل البائدة، في عملية إحياء لمنطقة يهوذا تحت شعار تجديد المجتمع القديم. وقد قام على تنفيذ هذه السياسة ولاة من يهوذا تدربوا في البلاط الفارسي، ووصلوا فيه إلى أعلى المناصب، مثل نحميا الذي كان ساقيا للملك الفارسي وموضع ثقته يرافقه في حله وترحاله (نحميا، 2). وقد تم تجميع هذا المجتمع الجديد حول هيكل إله السماء الفارسي الجديد، بعد أن تم إفهام الجميع من خلال سفر الشريعة الذي أتى به عزرا من بابل، بأن هذا الإله هو نفسه الإله القديم يهوه إله السامرة وإله يهوذا السالفتين ، وصار الدخول في هذه العبادة الجديدة شرطا للانتماء إلى المجتمع الجديد.
ورغم أن كهنة أورشليم قد ابتدءوا منذ عزرا الكاهن بعملية تدوين تاريخ لهذه الجماعة على أنه تاريخ إسرائيل، وابتكار أصول لديانة إله السماء ضاربة في أعماق هذا التاريخ، إلا أن تسمية «اليهودي» و«اليهودية» صارت علما على دين أورشليم وعلى الأفراد المنتمين إلى المجتمع الأورشليمي، من دون «الإسرائيلي». فكل ما هو «إسرائيلي» ينتمي إلى الماضي، إلى «القصة»، وكل ما هو «يهودي» ينتمي إلى الحاضر، حاضر ذلك المجتمع الجديد الذي يحاول مستميتا أن يؤكد تلاحمه وتجانسه كشعب مختار من قبل إله السماء. لقد اختار إله السماء هذه الفئات التي تم تجميعها في منطقة أورشليم لتكون له شعبا، كما وجدت هذه الفئات وحدتها وتجانسها من خلال إحساسها بالانتماء إلى ذلك الإله وإقامة العهد معه.
وهكذا، ومع تشكيل مقاطعة اليهودية ككيان سياسي ينتمي إلى النظام العالمي الفارسي الجديد، تدخل القصة التوراتية عتبة التاريخ. من هنا يتوجب علينا أن نعيد فهم مسألة «السبي البابلي» كحادثة تاريخية من جهة، وكفكرة ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهة أخرى، ذلك أن تقسيم تاريخ «بني إسرائيل» إلى ثلاث فترات - هي ما قبل السبي، وفترة السبي، وما بعد السبي - هو تقسيم باطل على ضوء ما تقدمنا به حتى الآن. فبنو إسرائيل ليس لهم وجود خارج مجال قصة الأصول التوراتية، وتاريخ دولتي السامرة ويهوذا قد انتهى وصار ملكا للذاكرة البشرية الجمعية بعد زوال إسرائيل عام 721ق.م. وزوال يهوذا عام 587ق.م. أما التاريخ اليهودي الذي ابتدأ مع بناء أورشليم الجديدة وهيكلها الجديد فليس استمرارا على أي صعيد للتاريخ الفلسطيني في العصر الآشوري والعصر البابلي، رغم النغمة الإعلامية الفارسية التي تحدثت بلغة «الإحياء» و«التجديد». إن ما تم «إحياؤه» في مقاطعة اليهودية لم يكن إحياء ليهوذا القديمة ولا لإسرائيل القديمة، بل خلقا من جديد لمجتمع قوامه فئات اجتماعية دخلت العصر الفارسي وقد تغيرت تغيرا تاما.
وفي الحقيقة، فإن «مسألة السبي» لم تعد بالنسبة لجماعة أورشليم الجديدة واقعة تاريخية بقدر ما غدت «فكرة» و«واقعة نفسانية» تساعد على فهم هذه الجماعة لنفسها باعتبارها البقية الناجية من «إسرائيل». فأفراد هذه الجماعة، سواء تحدروا من بقية يهوذا المسبية في بابل أم من غيرها، يستطيع واحدهم الانتماء إلى تلك الإسرائيل عن طريق تصور جذوره في المنفى البابلي، ومن خلاله صعودا نحو المجد المفقود في مملكة سليمان، ويتجاوز ذلك ليدخل كنعان مع يشوع، ثم يتطوح في الصحراء مع موسى، ويتنقل بعد ذلك مع قوافل إبراهيم وبقية الآباء المؤسسين.
إن التاريخ اليهودي ليس صفحة جديدة في تاريخ فلسطين القديم، بل تاريخ مستقل في أصوله ومساره ومصائره، ويجب أن يدرس على هذا الأساس. وبما أن دراسة التاريخ اليهودي تتطلب منهجية ومرجعية مختلفة تماما عن تاريخ فلسطين القديم، فإنه لا يدخل في منظور هذا الكتاب، كما أنه لا يدخل ضمن اهتمامي الشخصي في الوقت الحاضر.
حلب، تموز (يوليو) 1995
مراجع البحث
Bog aan la aqoon