Aram Dimishiq Wa Israa'iil
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
Noocyada
وهنا يجري التأسيس لأول مرة لفكرة «العودة» كعنصر مركزي في سياسة التهجير وإعادة التوطين البابلية. وتظهر هذه الفكرة بشكل خاص في نصوص الملك نابونيد الذي يقدم نفسه فيها محررا للآلهة من الأسر، ومحرر رعاياه الذين أعاد توطينهم في أراضيهم، وباني المعابد المهجورة التي عهد بها إليه الإله مردوخ. ولعل أهم نصوص نابونيد التي تؤسس لنظرية وممارسة السياسة السكانية البابلية هو نص إعادة بناء مدينة حران، الذي يتحدث فيه عن إحياء المدينة المهجورة، وإعادة بناء معبد الإله سن فيها، وجمع السكان إليها من عدد من بقاع الإمبراطورية البابلية. نقرأ في النص: «هذه هي المعجزة التي أظهرها الإله سن. المعجزة التي لم يكن لإله آخر أن يظهر مثلها. لقد هبط سن، سيد الآلهة والإلهات في السموات العلا، نزل من عليائه إلي أنا نابونيد، ودعاني لأن أكون ملكا بعد أن تضرع إليه كل الآلهة والإلهات ليفعل ذلك. وفي منتصف الليل، جاءني في الحلم وقال لي: أعد بناء إهلهول؛ معبد سن في حران، ولسوف أسلم إلى يديك قياد البلاد جميعا ... سن يا سيد الآلهة، أنت الذي يمسك بيده قوى الإله آنو، ويستخدم كل قوى الإله إنليل، ويسيطر على قوى الإله إيا، فيجمع بذلك إليه كل القوى السماوية. أيها السيد بين الآلهة، يا ملك الملوك ويا رب الأرباب، أمرك لا يعارضه أحد، وكلمتك لا يطالها تغيير. تنفيذا لأمر إلهي أعدت بناء إهلهول معبد سن، وسقت إلى حران جماعات من بابل ومن سوريا العليا، من حدود مصر عند البحر الأعلى (المتوسط) إلى شواطئ البحر الأدنى (الخليج العربي)، وجميعهم ممن عهد بهم إلي الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن، وننجال ونسكو وسادرنونا، فأقمت صورهم على قواعد راسخة، وقربت إليهم القرابين الكثيرة. فأكملت بذلك فريضة سن؛ ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء، أولئك الأرباب المعينين من قبله، المنفذين لأوامر الهلال المقدس الذي يعلوهم جميعا.»
4
يتخذ هذا النص مكانة هامة بين بقية نصوص الإمبراطورية البابلية الجديدة،
5
لكونه مفتاحا لفهم المنعطف الذي اتخذه مسار الأيديولوجيا الدينية في المنطقة، والذي وجد أحد تجسيداته المهمة بعد ذلك في كتاب التوراة. فنحن هنا أمام ثلاث فكر رئيسية جديدة، هي: (1) فكرة الإله الواحد. (2) فكرة إعادة بناء هيكل هذا الإله الواحد. (3) فكرة بناء مجتمع جديد يتمركز حول الهيكل وإلهه.
فالإمبراطور البابلي يعيد إلى حران المهدمة والمهجورة إلهها القديم التقليدي سن، ولكن لا كإله محلي، بل كإله شمولي أوحد يجمع إليه سلطات بقية الآلهة العظام ممن تحولوا إلى أتباع معينين في وظائفهم من قبله، يستمدون قدرتهم على الفعل من الألوهة الكلية القدرة المتجسدة في سن. وتحمل عملية إحياء عبادة الإله القديم هنا كل معاني الخلق الجديد لمعتقد وعبادة وطقوس لا تربطها بالصورة الماضية إلا أوهى الروابط. ولكن هذا المعتقد الجديد - الذي يدور حول إله قديم في صورة جديدة - يحتاج إلى مجتمع جديد يتلاحم حول الهيكل الذي قام في منطقة خلت من سكانها الذين شتتهم الأسر والنفي أو الهجرة. من هنا، فقد ساق نابونيد إلى حران جماعات من مناطق متفرقة من الإمبراطورية، بعضهم ولا شك من سكان حران السابقين، وبعضهم من المهجرين من مناطق أخرى، وأعطاهم وطنا يعملون على بنائه، وإلها شموليا هو الإله القديم لحران وقد غدا الآن ممثلا للصورة الإلهية في عالم الإمبراطورية البابلية الجديدة.
إن تقديم الإمبراطور البابلي هنا في صورة المنقذ الذي يعيد الآلهة المنفية إلى معابدها، والشعوب المهجرة إلى أراضيها، والأفكار الجديدة التي يقوم عليها هذا النص ونصوص التهجير البابلية الأخرى؛ يدلنا على أن الإدارة الإمبراطورية كانت في طريقها إلى جمع شعوب الإمبراطورية تدريجيا تحت معتقد ديني، يبحث في كل إله محلي عن صورة للإله الأوحد البابلي، الذي بدأ يتخذ اسم «إله السماء» لا بالمفهوم القديم لإله موكل بالسماء في مقابل آلهة أخرى موكلة بالأرض أو بالهواء أو بغيرها، بل بالمفهوم الشمولي الجديد لقوة السماء باعتبارها القوة الإلهية المطلقة. إلا أن عمر الإمبراطورية البابلية القصير، وسقوط بابل أخيرا بيد الفاتح الفارسي؛ قد وضع إكمال هذا المشروع بين يدي القوة الجديدة الصاعدة التي ورثت كلا من بابل وآشور لفترة طويلة قادمة.
سار الإعلام الفارسي - الذي وضع مبادئه الملك قورش عقب دخوله بابل - على نسق إعلام الإمبراطورية البابلية الجديدة. ففي نص قورش المشهور، الذي يعتبر بمثابة البيان السياسي للإمبراطورية الفارسية، يتهم الحاكم الفارسي سلفه بالظلم والاستبداد، وتسخير الرعية وتهجيرهم، وبالإساءة إلى الآلهة وتجاهل عبادتها. وهو يدعي أن الإله مردوخ الذي هجر بابل مع بقية الآلهة قد دعاه لينقذ الشعب ويعيد الأمور إلى نصابها، وأسلمه بابل التي فتحت ذراعيها لاستقباله دون مقاومة. وهو من بابل التي قصدها ملوك الجهات الأربع لتقديم ولائهم يعلن عن سياسته في إعادة بناء المدن المقدسة وهياكلها التي نقلت منها صور الآلهة، وإعادة المهجرين مع آلهتهم إلى تلك المدن التي جعلها البابليون خرابا. وعلى حد قول النص في نهايته: «لقد أرجعت إلى المدن المقدسة على الجهة الأخرى من الدجلة معابدها التي كانت خرابا لمدة طويلة، كما أعدت إليها صور الآلهة التي كانت تعيش فيها، وجمعت سكانها المنفيين وسقتهم إلى أوطانهم. وتنفيذا لأمر مردوخ الإله العظيم، فقد أعدت صور آلهة سومر وأكاد - التي جلبها نابونيد إلى بابل - سليمة إلى محاريبها السابقة، الأماكن التي تسر فؤادها.»
6
هذا البيان السياسي الفارسي - رغم أسلوبه الدعائي الموجه إلى شعوب الإمبراطورية لكسب ولائها - قد وضع بالفعل موضع التنفيذ العملي، وسارت عملية إعادة الشعوب والآلهة إلى مواطنها على قدم وساق خلال فترة حكم قورش وخلفائه، وذلك تحت شعارات «التجديد» و«إعادة البناء». إلا أن الخيال يجب ألا يذهب بنا إلى تصور الإمبراطور الفارسي في حلة المنقذ الحقيقي الذي يهب الشعوب كرامتها واستقلالها، ويسمح بعودة القوى الإقليمية إلى ما كانت عليه سابقا، ذلك أن ما هدفت إليه السياسة الفارسية هو خلق نظام إداري للإمبراطورية ذي طابع لا مركزي من حيث الشكل، يساعد على حكم المناطق الشاسعة للإمبراطورية بكفاءة عالية وبنفقات أقل، كما يساعد على فرض القوانين والشرائع الفارسية بعد إعطائها طابعا إقليميا محليا. وفي سعيها إلى خلق هذه الكيانات الإقليمية التابعة، التي تستقبل عن طيب خاطر القوانين والشرائع الفارسية التي توحدها مع جسد الإمبراطورية، فقد عملت الإدارة الفارسية على مطابقة الآلهة المحلية في المجتمعات الجديدة - التي تم خلقها أو إحياؤها في حلة جديدة - مع «إله السماء» الفارسي أهورا مزدا؛ الإله الواحد الحق الذي بشر به زرادشت قبل قرن من الزمان تقريبا. إن إمبراطورية على هذا القدر من الاتساع لا يمكن ضبطها إلا بنظام قانوني تشريعي واحد، وإله واحد تتنوع أسماؤه وتجلياته في الأقاليم، ولكنها تتحد في النهاية تحت مفهوم الإله الواحد للإمبراطورية. وهذه السياسة الفارسية لم تكن في واقع الحال إلا تطويرا لما كان الملوك البابليون قد وضعوه موضع التطبيق، ولكن لم يساعدهم الوقت على إتمامه.
Bog aan la aqoon