Arabic Language: Its Meaning and Structure
اللغة العربية معناها ومبناها
Daabacaha
عالم الكتب
Lambarka Daabacaadda
الخامسة ١٤٢٧هـ
Sanadka Daabacaadda
٢٠٠٦م
Noocyada
مقدمات
ملابسات هذا البحث
...
بسم الله الرحم الرحيم
تقديم:
ظهر هذا الكتاب أول مرة سنة ١٩٧٣ ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم أعادت الهيئة طبعة سنة ١٩٧٩، ولقد قلت في التقديم لهذا الكتاب: "ولو أنّ جمهور الدارسين أعطى هذا الكتاب ما يسعى إليه من إثارة الاهتمام، فإنه ينبغي لهذا الكتاب أن يبدأ عهدًا جديدًا في فهم العربية الفصحى -مبناها ومعناها، وأن يساعد على حسن الانتفاع بها لهذا الجيل وما بعده من أجيال". وظل القراء أعوامًا طوالًا لا يجيبون هذه الدعوة حتى رأيناهم فجأة يتناولون الكتاب بالنقد مدحًا وقدحًا، فكنت سعيدًا بالأمرين على السواء:
١- فقد تناوله الأستاذ عبد الوارث مبروك سعيد في كتابه: "في إصلاح النحو العربي" مشيرًا به من صفحة ١٧٥ إلى ١٨٤.
٢- وتناوله الدكتور حلمي خليل في كتابه: "العربية وعلم اللغة البنيوي" ناقدًا وموضحًا أهمية الكتاب، ومظهرًا اعتراضه على بعض ما جاء به.
٣- وخصصت له مقالات في عدد من المجلات العلمية في العالم العربي مثل:
أ- حوليات الجامعة التونسية - العدد السابع عشر ١٩٧٩.
ب- حوليات الجامعة التونسية - العدد الخامس والعشرون ١٩٨٦.
جـ- مجلة "عالم الكتب" - السعودية - العدد الثالث سبتمبر ١٩٨٦.
د- مجلة مجمع اللغة العربية الأردني - العدد ٣٦ - كانون الثاني ١٩٨٩.
٤- وثلبه أحد القراء في مقال له عنوانه: "مزاعم لتجديد في النحو العربي" بمجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، التابعة لجامعة الأزهر بالمنصورة - العدد الأول ١٩٨٨.
1 / 5
كل ذلك وغيره كان إجابة لرغبتي السابقة أن يثير هذا الكتاب اهتمام القراء خدمة للغة العربية واهتمامًا بها، ومن هنا كان سروري بمن مدح ومن ثلب.
والآن نظهر الطبعة الثالثة ضمن منشورات عالم الكتب، برغبة كريمة من صاحب هذه المؤسسة الناجحة الأستاذ أشرف يوسف عبد الرحمن، ولقد كان لهذه المؤسسة من قبل فضل إظهار كتابي "البيان في روائع القران"، و"النص والخطاب والإجراء" الذي تَمَّت ترجمته أخيرًا عن اللغة الإنجليزية. والآن أتقدم بهذه الطبعة الجديدة لكتاب "اللغة العربية - معناها ومبناها" إلى القارئ العربي الكريم، وأرجو أن يصادف عنده القبول كما صادفه من قبل.
1 / 6
تقديم:
هذا البحث نتاج زمن طويل من إعمال الفكرة ومحاولة إخراجها في صورة مقبولة، فأول عهدي بفكرة هذا البحث ما كان من ورودها على الخاطر سنة ١٩٥٥، عند ظهور كتابي "مناهج البحث في اللغة"، فقد جاء ذلك الكتاب في حينه ليقدِّم إلى القارئ العربي ما اصطنعه الغربيون من منهج وصفي، وليعرض هذا المنهج عرضًا مفصَّلًا، آخذًا أمثلته ووسائل إيضاحه من الفصحى حينًا، ومن العاميات حينًا، ومن لغات أجنبية ثالثًا، فلم يكن بحثًا خالصًا للفصحى بقدر ما كان عرضًا للمنهج الوصفي، ولكنه مسَّ موضوع هذا الكتاب مسًّا خفيفًا على أي حال، وحين كنت أتولى تدريس علم الأصوات اللغوية لطلبة السنة الثانية بكلية دار العلوم بالقاهرة -فيما بين عامي ١٩٥٣ و١٩٥٩- كان الاتجاه العام بين أساتذة الكلية في ذلك الحين هو إلى التشكيك في قيمة الدراسات اللغوية الحديثة، ولا سيما عند تطبيق منهجها وأفكارها على دراسة اللغة الفصحى، وكان هؤلاء يرون أن المنهج الوصفي إن صادف أيّ قدر من القبول في نفوسهم، فماكان لهذا القبول أن يتعدى تطبيق هذا المنهج على اللهجات العامية، أما الفصحى فهيهات! لأن الأول ما ترك للآخر شيئًا، حتى إن النحو قد نضج حتى احترق، لهذا كله كنت أقدم لدراسة الأصوات اللغوية كل عام بموضوع يمتّ إلى هذا البحث بأوثق صلة يستغرق محاضرتين، جعلت عنوانه: "تشقيق المعنى"، وكنت أبيِّن في تدريس هذا الموضوع ما تتطلبه الفصحى من إعادة النظر في منهجها وطريقة تناولها، وفي سنة ١٩٥٩ تحولت عن قسم الدراسات اللغوية بكلية دار العلوم "، وهو القسم الذي يعنى أساسًا بالمناهج الحديثة في دراسة اللغة" إلى قسم النحو والصرف والعروض
1 / 7
وهو المقابل التقليدي للقسم السابق الذكر، وكان من بين الدهاقين الذين يعيبون هذا الجديد كبار رجال هذا القسم، ولقد أشفقت أول الأمر على ما يدور في رأسي من أفكار المنهج الوصفي أن تهب عليها رياح اللوائح والسلطة الرسمية ومطالب تنشئة الطلاب في النحو العربي التقليدي تنشئة تؤهلهم بعد قليل لأن يعلِّموا هذا النحو في مدارس الدولة على الطريقة التي ألفتها هذه المدارس منذ نشأت في ظل التقاليد. من هنا آثرت أن أبتعد بأفكار المنهج الوصفي عن طلبة السنوات الأربع التي تنتهي بالدرجة الجامعية الأولى، ولكنني أكدت وجود هذه الأفكار وأصررت عليها بالنسبة لطلبة الدراسات العليا، فلم أقبل الإشراف على طالب من هؤلاء يسعى مثلًا إلى كتابة ترجمة لنحوي، أو تحقيق كتاب أو بحث لا يتناول فكرة منهجية نقدية ترمي إلى تطعيم أفكار النحاة القدماء بأفكار المنهج الوصفي الحديث. وهكذا وردت أفكار هذا البحث مع كل رسالة علمية أشرفت عليها، وكان من بينها العناوين الآتية:
ابن مضاء ومنهج النحاة القدماء في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة "ماجستير".
اسم الفاعل بين الاسمية والفعلية "ماجستير".
الصواب والخطأ عند النحاة الأقدمين في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة "دكتوراه".
وسائل أمن اللبس في النحو العربي "دكتوراه".
الزمن في النحو العربي "ماجستير".
الوحدات الصرفية ودورها في تكوين الكلمة العربية "ماجستير".
تقسيم الكلام العربي "دكتوراه".
وفي سنتي ١٩٦٥ و١٩٦٦ تقدَّمت على الترتيب ببحثين إلى الندوة التي يقيمها الأساتذة في دار العلوم يناقشون بها بحوثًا يتقدَّم بها أفراد منهم، وكان موضوع البحث الأول: "نقد منهج النحاة العرب"، وموضوع البحث الثاني: "أمن اللبس ووسائل الوصول إليه في اللغة العربية"، فكان في هذين البحثين عود إلى موضوع هذا الكتاب في ذلك الوقت، ثم دعاني الصديق الكريم الأستاذ محمد خلف الله أحمد عميد معهد الدراسات العربية، التابع لجامعة الدول العربية إلى تدريس موضوع خاص لطلبة هذا المعهد، فاخترت لذلك "مشكلة المعنى"، وعدت بذلك إلى موضوع هذا الكتاب، ثم جرت إعارتي في ١٩٦٧ إلى قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم، فقمت بتدريس بعض ما يشتمل عليه هذا البحث من موضوعات لطلبة الدراسات العليا بالقسم.
1 / 8
وهكذا تعددت روافد هذا البحث، وطال الأمد على إعداده حتى قُدِّرَ له آخر الأمر أن يدوّن ويُعَدّ للطبع وأنا لا أزال معارًا لقسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم.
ومجال هذا البحث هو اللغة العربية الفصحى بفروع دراستها المختلفة، فليس هذا الكتاب كَتْبًا في فرعٍ معينٍ من فروع هذه الدراسات، ولكنه يجول فيها، ويأخذ من كل فرع منها ما يراه بحاجة إلى معاودة العلاج على طريقة تختلف اختلافًا عظيمًا أو يسيرًا عن الطريقة التي ارتضاها القدماء، ثم ينتهي أخيرًا إلى نتيجة مختلفة أيضًا. وإذا كان مجال هذا الكتاب هو الفروع المختلفة لدراسة اللغة العربية الفصحى، فلا بُدَّ أن يكون المعنى هو الموضوع الأخص لهذا الكتاب؛ لأن كل دراسة لغوية -لا في الفصحى فقط، بل في كل لغة من لغات العالم- لا بُدَّ أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وكيفية ارتباطه بأشكال التعبير المختلفة، فالارتباط بين الشكل والوظيفة هو اللغة وهو العرف وهو صلة المبنى بالمعنى. وهذا النوع من النظر إلى المشكلة يمتد من الأصوات إلى الصرف إلى النحو إلى المعجم إلى الدلالة، ويتم ذلك أحيانًا بإطراء القديم والإشادة به، وأحيانًا أخرى باستبعاده والاستبدال به، وأحيانًا بالكشف عن الجديد الذي لم يشر إليه القدماء مع وضوحه أمام أنظارهم، وأحيانًا نجمع الظواهر المتفرقة المترابطة التي لم يعن القدماء بجمعها في نظام واحد. كل أولئك هو مجال هذا البحث، ومن ثَمَّ تصبح اللغة العربية كلها مجالًا له، ويصبح على ضآلة حجمه قد جعل كل تفكير لغوي سبقه في متناول نقده، إما على صورة مباشرة أو غير مباشرة.
وهذه العبارة الأخيرة ربما صلحت لأن تكون تلخيصًا لأبعاد هذا البحث من وجهة النظر السلبية، أما إيجابًا فقد كشف هذا الكتاب عن أنظمة اللغة العربية، ووضَعَها لأول مرة في مقابل مشاكل التطبيق، ففسر بهذه الطريقة بعض ما كان يعتبر من ظواهر الشذوذ في التركيب اللغوي، وربط هذه الظواهر بالواقع، وأضاف إليها غيرها مما لم يدرس من قبل، وبيّن ارتباط هذه الظواهر بالمعنى على مستوياته المختلفة. فلقد بيَّنَ هذا الكتاب كيف ينبني كل نظام من أنظمة اللغة العربية على طائفة من المقابلات، أي: أنواع التخالف، أي: القيم
1 / 9
الخلافية، وهي قيم عدمية شكلية ووظيفية، إن صحَّ أن يقوم عليها نظام ساكن صامت لم يصح أن يقوم عليها سياق متحرك منطوق، وهذا التقابل بين النظام والسياق هو الذي سميته: مشاكل التطبيق، أي: مشاكل وضع النظام في مجال عمل وحركة مع ما يقود إليه ذلك من تعارض مطالب السكون ومطالب الحركة. ولقد جاءت حلول مشاكل التطبيق على الأنظمة جميعًا في صورة حلول صوتية، وقد سميتها جميعًا ظواهر موقعية، ووضعتها جميعًا في ذيل الأنظمة اللغوية الثلاثة لتوقف المعاني الصرفية والنحوية عليها في الأعم الأغلب. وبيَّن هذا الكتاب النظام الصرفي للغة المبني على قيم خلافية شكلية ووظيفية، ويمكن لهذا النظام كما أمكن للنظام الصوتي من قبله أن يمثَّل في صورة جدول تتشابك فيه العلاقات طولًا وعرضًا، حتى يبدو النظام كلًّا مترابطًا، وفي صورة وحدة عضوية مفردة. ومثل ذلك أمر النظام النحوي للغة كما يمكن أن يرى في موضعه من هذا الكتاب. أما المعجم فهو إن كان جزءًا من اللغة فليس نظامًا، وإنما هو قائمة من الكلمات ذات المعاني المتباينة غير المتقابلة بالضرورة. وأما المعنى الاجتماعي الدلالي فينبئ على فكرة المقام الذي يجري فيه الكلام ويتوقف فهمه عليه، ولا يستغني عن التحليل اللغوي للمقال، أي: الجملة المنطوقة أو المكتوبة. وهذا المقام تحدده التجربة الاجتماعية، وتتعدد المقامات الاجتماعية بحسب إطار الثقافة، ولكن المقامات حتى في هذا الإطار لا تسلك في نظام ثابت لأن الثقافة تتطور.
والغاية التي أسعى وراءها بهذا البحث أن ألقي ضوءًا جديدًا كاشفًا على التراث اللغوي العربي كله، منبعثًا من المنهج الوصفي في دراسة اللغة. وهذا التطبيق الجديد للنظرة الوصفية في هذا الكتاب يعتبر -حتى مع التحلي بما ينبغي لي من التواضع- أجرأ محاولة شاملة لإعادة ترتيب الأفكار اللغوية تجري بعد سيبويه وعبد القاهر. أقول: أجرأ محاولة، لأنني أعرف أنها كذلك، ولا أقول أخطر محاولة؛ لأنني لا أعلم ما يترتّب عليها من آثار، ولو أن جمهور الدارسين أعطى هذا الكتاب ما يسعى إليه من إثارة الاهتمام، فإنه ينبغي لهذا الكتاب أن يبدأ عهدًا جديدًا في فهم العربية الفصحى مبناها ومعناها، وأن يساعد على حسن الانتفاع بها لهذا الجيل وما بعده من أجيال. والله أسأل أن يوفقنا جميعًا إلى سواء السبيل.
1 / 10
مقدمة:
لم يكتب للدراسات اللغوية العربية أن تنمو فيما بعد القرن الخامس الهجري، فلقد كان كل جهد يبذل بعد ذلك القرن، إما في سبيل الشرح، وإما في سبيل التعليق، وإما في سبيل التحقيق والتصويب. أما العمل المبتكر والذهن المبدع فقد قضى عليهما ظهور العنصر التركي على مسرح السياسة، واستبداده بأمر الخلافة، وضيق أفقه في الفكر، وقلة حماسه للعلم، وتلك ظاهرة ظلت تتضح في العالم العربي والإسلامي يومًا بعد آخر، وتستشري باطِّراد حتى انتهت آخر الأمر بما سموه: إقفال باب الاجتهاد. وكان معنى ذلك إضفاء الشرعية على التقليد، والتماس النجاة في ظلّ أعواده اليابسة التي غرسها الشؤم في صحراء الجهل ويبابه، كيف لا ومن قلد عالمًا لقي الله سالمًا! ولم تعد البصرة والكوفة وبغداد ومكة والمدينة والقاهرة ودمشق والقيروان من عواصم الابتكار في الخلافة تنبض بالحياة كما كانت في أيامها الخوالي، حين كان العالم المتحضر في ذلك الوقت يرى في هذه العواصم قبلةً للفكر الخلاق، وكان النحاة واللغويون من بين هؤلاء العلماء أرفعهم صوتًا وأجرأهم عقلًا وآصلهم فكرًا وأثبتهم على الطريق قدمًا.
ولكن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية العربية كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات وفلسفة منهجها، فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجًا لظاهرة كان يخشى منها على اللغة وعلى القرآن، وهي التي سمَّوها "ذيوع اللحن"، وعلى الرغم من أن تسمية هذه الظاهرة المذكورة لا تشير إلّا إلى الخطأ في ضبط أواخر الكلمات بعدم إعطائها
1 / 11
العلامات الإعرابية الملائمة، أشعر بميل شديد إلى الزعم بأن الأخطاء اللغوية التي شاعت على ألسنة الموالي، وأصابت عدواها ألسنة بعض العرب، لم تكن مقصورة على هذا النوع من أنواع الأخطاء. فأكبر الظنّ أن هذا الذي سموه لحنًا كان يصدق على أخطاء صوتية؛ كالذي يشير إليه مغزى تسمية اللغة العربية الفصحى "لغة الضاد"، ويفصله ما يروى من نوادر الموالي كأبي عطاء السندي١ وسعد الزندخاني٢ وغيرهما. كما كان يصدق على الخطأ الصرفي الذي يتمثل في تحريف بنية الصيغة أو في الإلحاق أو الزيادة، وعلى الخطأ النحوي الذي كان يتعدّى مجال العلامة الإعرابية أحيانًا إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرهما. وعلى الخطأ المعجمي الذي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها المعنى نفسه، ويصدق على جميع هذه الأنواع من الخطأ أنها أخطاء في المبنى أولًا وأخيرًا، ولو أدت في النهاية إلى خطأ في المعنى لم يكن نتيجة خطأ في القصد.
من هنا اتسمت الدراسات اللغوية العربية بسمة الاتجاه إلى المبنى أساسًا، ولم يكن قصدها إلى المعنى إلّا تبعًا لذلك وعلى استحياء، وحين قامت دراسة "علم المعاني" في مرحلة متأخرة عن ذلك في تاريخ الثقافة العربية، كانت طلائع القول في هذه الدراسة كما كانت في بداية دراسة النحو من قبلها تناولًا للمبنى المستعمل على مستوى الجملة، لكن لا على مستوى الجزء التحليلي كما في الصرف، ولا على مستوى الباب المفرد كما في النحو. ومن هنا رأينا عبد القاهر في دلائل الإعجاز يتكلم في النظم والبناء والترتيب والتعليق، وكلها أمور تتصل بالتراكيب أكثر مما تتصل بالمعاني المفردة. وسنحاول فيما يلي أن ننظر عن كثبٍ في طابع منهج النحاة، وفي طابع منهج البلاغيين، لنرى صلة كلٍّ منهما بالآخر، ثم ننظر من بعد في صلتهما بمنهج المعجميين إجمالًا، لنصل من وراء كل ذلك إلى تقويم الدراسات العربية من حيث صلاحيتها للكشف عن المعنى.
_________
١ الأغاني جـ١٦ ص٧٩، ٨٠ -٨٤.
٢ الفهرست ص٤٠.
1 / 12
لقد ذكرت من قبل أن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية عند العرب كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات، ونزيد هنا "أن الغاية التي نشأ النحو العربي من أجلها، وهي ضبط اللغة وإيجاد الأداة التي تعصم اللاحنين من الخطأ، فرضت على هذا النحو أن يتَّسم في جملته بسمة النحو التعليمي لا النحو العلمي، أو بعبارة أخرى: أن يكون في عمومه نحوًا معياريًّا لا نحوًا أو صفيًا، ولعل أحسن تلخيص لموقف النحو العربي من هذه الناحية المعيارية هو قول محمد بن مالك في ألفيته:
فما أبيح أفعل ودع ما لم يبح١
ولقد تعلقت الإباحة وعدمها بقواعد معيارية تفرض نفسها على الاستعمال وعلى المسموع، وكان توصل النحاة إلى هذه القواعد نتيجة نشاط استقرائي تحليلي للغة، سواء في ذلك مفرداتها وتراكيبها، ولكنهم بعد وصولهم إلى ما ارتضوه من قواعد جعلوا هذه القواعد "أحكامًا"، فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع، ومن ثَمَّ أعملوا فيما خالف قواعدهم من النصوص حيل التخريج والتأويل والتعليل، فإذا لم يتأتّ لهم ذلك قالوا في المسموع: "يحفظ ولا يقاس عليه". وهذا موقف من النحاة يفترض في العربي الأول أنه كان على بصر بأقيستهم وعللهم، وقد ورد عن بعض أساطين النحاة ما يؤيد دعوى هذا الافتراض.
والذي يرضاه المنهج الحديث في دراسة اللغة أن يتوافر لموضوع الدراسة الشرطان الآتيان:
١- أن يتناول لهجة واحدة من لهجات لغة ما، فلا يخلط في دراستها بينها وبين لهجة أخرى من اللغة نفسها.
٢- أن يعنى في هذه الدراسة الوصفية بمرحلة زمنية واحدة من مراحل تطور هذه اللهجة.
والغاية التي يسعى الشرط الأول إلى تحقيقها: ألّا يخلط في دراسة المعنى على المستوى التحليلي الوصفي بين لهجة وبين لهجة أخرى؛ لأن كل واحدة
_________
١ منهج النحاة العرب - بحث قدمه المؤلف إلى ندوة أساتذة دار العلوم ١٩٦٥.
1 / 13
منهما تمثل نظامًا متكاملًا مستقلًّا من أنظمة الرمز العرفي؛ بحيث ترمز كل علامة فيه إلى معنى معين يختلف عمّا في اللهجة الأخرى لسبب بسيط جدًّا، وهو أن العرف ذاته يختلف في أيّ مجتمع عنه في المجتمع الآخر مهما ضيقنا مدلول كلمة "مجتمع"، ولا شك أن الخلط بين نظامين عرفيين من أي نوع سيؤدي في النهاية إلى عدم تمييز أي من النظامين، وهل يمكن لامرئ أن يفهم تقاليد مجتمع وقد خلط بينها وبين تقاليد مجتمع آخر؟
وأما الغاية التي يسعى الشرط الثاني إلى تحقيقها: فهي الفصل بين أي طورين مختلفين من أطوار نمو لهجة واحدة بعينها في دراسة يرجى لها أن تكون وصفية لا تاريخية. فدراسة الأطوار المتعاقبة هي دراسة تاريخية، وهي تكون مطلوبة لذاتها عند إرادة دراسة تاريخ تطور اللهجة، ولقد حمدنا لأصحاب تاريخ الأدب أن يقوموا بدراسة تاريخية لنتاج لغوي ما؛ لأن العنصر التاريخي هنا مقصود لذاته. أما الدراسة الوصفية فإنها تتطلّب حالة يزعمها الباحث ثابتة؛ ليكون وصفه إياها مقبولًا من الناحية المنهجية، على الرغم من أن التطور اللغوي لا يشتمل على حالات ثابتة كتلك التي يزعمها الباحث في اللغة على المستوى الوصفي.
والمعروف أن النحاة العرب درسوا لهجات عربية متعددة ليستخرجوا منها نظامًا نحويًّا موحدًا، وأنهم فوق ذلك درسوا هذه اللهجات في أطوار متعددة من نموها، فلم يفطنوا إلى ضرورة الفصل بين مرحلة ومرحلة أخرى من تطور اللغة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب بتطور التعبير اللغوي الجميل.
فلقد اعترف مؤرخو الأدب بعصر جاهلي وآخر إسلامي ثم أموي فعباسي وهلم جرّا، ولكن النحاة أخذوا شواهدهم من فترة لغوية دامت أكثر من خمسة قرون كاملة، "والذين عنهم نقلت العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب؛ هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكِلَ في الغريب وفي الإعراب والتعريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين"١.
_________
١ الاقتراح السيوطي ١٩-٢٠.
1 / 14
ومعنى اقتصار النحاة على هذه القبائل دون غيرها، ودون سائرها، أن النحاة وضعوا لأنفسهم معيارًا خاصًّا للانتقاء، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم"١. ولقد كان لهذا الموقف التلفيقي من قِبَل النحاة أثره في المعنى النحوي والصرفي، سواء ما كان من ذلك متصلًا بالرواية أو بالاستشهاد أو بالسماع والقياس أو بالتمرينات القياسية التي كانت تأخذ صورة تراكيب لم تسمع عن العرب، أو بموقفهم من التصويب والتخطئة٢.
والمعنى التحليلي الوظيفي الذي درسه النحاة وجعلوه حقل تخصصهم ذو ثلاث شعب:
١- الشعبة الأولى: دراسة الأصوات العربية، وقد فصّل النحاة القول في وصف مخارجها وصفاتها فرادى، ثم تناولوا بالدراسة ما رأوه منها داخلًا في حيز الإدغام كما فهموه، وذلك مثل إدغام المتماثلين مخرجًا، والمتقاربين مخرجًا، والمشتركين في طرف اللسان، ثم الإدغام بالصفة مثل: إدغام المجهور والمهموس معًا بأن يصيرا معًا إلى الجهر أو إلى الهمس، وبعض أمثلة القلب، وبعض الأمثلة الشاذة.
٢- والشعبة الثانية: دراسة الصرف التي عنوا فيها بالأصول والزوائد، وبيان المشتق والجامد، وتحديد أشكال الصيغ، وحصر اللواحق وأماكن إلحاقها، والزيادات وأماكن زيادتها، ثم ما يلحق الصيغ من إعلال أو إبدال أو قلب أو حذف. وهذه الشعبة من دراسة اللغة وإجادة القول فيها أفردت الصرفيين العرب بمكانٍ لا يدانيه أيّ مكان آخر في عالم اللغويين قديمًا أو حديثًا، ولا يزال كشفهم عن النظام الصرفي العربي موضع الإعجاب والاحترام، وسيظل دائمًا كذلك في نظر اللغويين في مختلف أنحاء العالم.
_________
١ المرجع نفسه.
٢ ذلك كله مدروس بالتفصيل في البحث الذي سبق أن أشرت إليه تحت عنوان: "منهج النحاة العرب".
1 / 15
٣- والشعبة الثالثة: دراسة النحو، وقد حاولوا فيها تقسيم الكلام وبيان علامات كل قسم، ثم كشفوا عن المعرب والمبني من هذه الأقسام، وشرعوا بعد ذلك في بيان الأبواب النحوية في داخل الجملة، وما يمتاز به به كل باب من علامات يعرف بها، وبينوا بعض المعاني الوظيفية التي تؤديها العناصر اللغوية؛ كالتذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير، والإفراد والتثنية والجمع، والتكلم والحضور والغيبة، وكالصرف وعدمه، والعلامة الإعرابية، وهلم جرّا.
والمعروف أن هذا الجانب التحليلي من دراسة النحو لا يمسّ معنى الجملة في عمومه، لا من الناحية الوظيفية العامة كالإثبات والنفي والشرط والتأكيد والاستفهام والتمني ... إلخ، ولا من ناحية الدلالة الاجتماعية التي تنبني على اعتبار المقام في تحديد المعنى، وإن كانت تمس ناحية من نواحي الترابط بين أجزاء الجملة بروابط مبنوية أو معنوية ذكروها فرادى ولم يعنوا بجمعها في نظام كامل كالذي فعلته في هذا البحث تحت عنوان التعليق.
والذي نريد أن نخلص إليه هنا أن دراسة النحو كانت تحليلية لا تركيبة، أي: إنها كانت تعنى بمكونات التركيب، أي: بالأجزاء التحليلية فيه أكثر من عنايتها بالتركيب نفسه. أقصد أنهم لم يعطوا عناية كافية للجانب الآخر من دراسة النحو وهو الجانب الذي يشتمل على طائفة من المعاني التركيبية والمباني التي تدل عليها، فمن ذلك مثلًا: معنى الإسناد باعتباره وظيفة، ثم باعتباره علاقة، ثم تفصيل القول في تقسيمه إلى إسناد خبري وإسناد إنشائي، وتقسيم الخبري إلى مثبت ومنفي ومؤكد، وتقسيم الإنشائي إلى طلبي وغير طلبي.. إلخ، مما يتصل بتحديد التركيب المناسب لكل إسناد من حيث الأداة والرتبة والصيغة والعلاقة. وللتعليق وسائله المختلفة؛ معنوية كانت كعلاقات الإسناد ذاته، وكالتخصيص والنسبة والتبعية، أو لفظية للتعبير شكليًّا عن هذه العلاقات؛ كالعلامة الإعرابية والربط والمطابقة والصيغة والرتبة والأداة والنغمة، وذلك مع تحديد مجالات المطابقة في العلامة الإعرابية، والنوع والعدد والشخص والتعيين على نحو ما سنراه بالتفصيل عند تناول القرائن اللفظية في دراسة التعليق في موضعه
1 / 16
من هذا الكتاب، مع العناية الواجبة في كل ذلك بالمعالم السياقية باعتبارها ظواهر لا تبدو إلّا في التركيب.
ولقد كان على النحاة من حيث المبدأ أن ينظروا إلى التحليل باعتباره طريقًا للوصول إلى التركيب، ذلك بأن المادة المدروسة تصل إلينا حين تصل في صورتها المركبة، ولكن الاعتبارات العملية لدراسة هذه المادة تفرض على هذا السياق المركّب أن ينحلّ إلى أصغر مكوناته وعناصره حتى يمكن الوصول إلى الخصائص التحليلية لهذه العناصر. والنتائج التي يوصل إليه بواسطة التحليل تحمل في طيها زعمًا اعتباطيًّا بصدقها واطرادها حتى في السياق، ولكن هذا ليس أكثر من زعم، وكان على النحاة أنفسهم أن يدركوا ذلك، وأن يعلموا أن هذا الزعم لا مبرر له إلّا الاعتبارات العملية للبحث، وأن نتائج النظر إلى السياق تفرض عناصر جديدة على المكونات التحليلية، هي حلول لما قد يكون بين النظام وبين السياق من تضارب، أو هي بعبارة أخرى معالم سياقية، أو ظواهر موقعية لا وجود لها إلّا في السياق المنطوق وبسببه. ولكن النحاة لم يفطنوا إلى طبيعة التعارض الممكن حدوثه بين النظام ومطالب السياق، أو بعبارة أخرى: التعارض بين مطالب التحليل ومطالب التركيب، فوقعوا في أخطاء منهجية، كان من أخطرها ما سنشير إليه فيما بعد عند دراسة الزمن النحوي، من أن النحاة درسوا زمن الأفعال على المستوى الصرفي وهي في عزلتها عن التراكيب، ولم يختبروا نتائج دراستهم إلّا في تركيب الجملة الخبرية البسيطة، فرأوا الماضي ماضيًا دائمًا، والمضارع حالًا أو استقبالًا دائمًا، فوضعوا بذلك قواعدهم الزمنية، ثم اصطدموا بعد ذلك بأساليب الإنشاء والافصاح، فنسبوا وظيفة الزمن إلى الأدوات وهي منه براء، وإلى الظروف وهي تفيده معجميًّا لا وظيفيًّا، وسنرى ذلك مفصلًا في مكانه من هذا الكتاب. كذلك لم يفطن النحاة إلى أهمية بقية الظواهر السياقية في تحديد المعنى النحوي على نحو ما سنرى فيما بعد.
وإذا كان النحو على الصورة التي شرحتها هو تقعيد أبواب المفردات، فقد كانت الحاجة معه ماسَّة إلى دراسة أبواب الجمل، ولما ظهر
1 / 17
الاتجاه البلاغي إلى دراسة المعنى، كان من طلائع كتبه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة للعلامة عبد القاهر الجرجاني، الذي أعترف لآرائه الذكية بقدرٍ غير يسير من الفضل على الجزء الخاصّ بتناول المعنى النحوي والدلالي من هذا الكتاب، حيث جرى الانتفاع أحيانًا بعبارات هذا العلامة، وأحيانًا أخرى بإشاراته. ولقد اتجهت عناية البلاغيين بالمعنى في النهاية ثلاثة اتجاهات مطابقة لتقسيم علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، فأما في دراسة "المعاني" فقد كان التركيب هو موضوع الدراسة، فتناول البلاغيون أنواع التراكيب من إثباتٍ إلى نفي إلى استفهام وهلم جرّا، لا على طريقة النحاة من التركيز على الأدوات والمكونات الأخرى ونسبة المعنى إليها، وإنما على طريقة النظر في التركيب نفسه من جهة أسلوب وصفه وطرق التعبير به، وما فيه من إيجاز وإطناب ومساواة، وما فيه من فصل ووصل وقصر وتقديم وتأخير، مما اعتبره النحاة -وما أصابوا- خارج مجال اهتمامهم. والواقع أن هذه الدراسة للمعنى -وهي دراسة معانٍ وظيفية في صميمها- تبدو أكثر صلة بالنحو منها بالنقد الأدبي، الذي أريد بها خطأ أن تكونه. ومن هنا نشأت هذه الفكرة التي تتردد على الخواطر منذ زمن طويل، أن النحو العربي أحوج ما يكون إلى أن يدعي لنفسه هذا القسم من أقسام البلاغة الذي سمي علم المعاني، حتى إنه ليحسن في رأيي أن يكون علم المعاني قمّة الدراسة النحوية أو فلسفتها إن صح هذا التعبير. ولقد كانت مبادرة العلامة عبد القاهر ﵀ بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق، من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمة في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق أو التركيب١.
ومع قطع النظر عن رأيي الشخصي في قيمة البلاغة العربية بعامّة من حيث كونها منهجًا من مناهج النقد الأدبي، وعن صلاحيتها أو عدم صلاحيتها في هذا المجال، أجدني مدفوعًا إلى المبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر للنظم وما يتصل به تقف بكبرياء كتفًا إلى كتفٍ مع أحدث النظريات اللغوية في الغرب، وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب اللغوي، هذا مع الفارق الزمني الواسع
_________
١ دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.
1 / 18
الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود المحدثة على جهد عبد القاهر. ولكن هذا الطابع الذي اتسم به علم المعاني من بين علم البلاغة جعل هذا العلم نحوًا من النحو، وصيَّره كالنحو صناعةً مضبوطة Exact System لا منهجًا ذوقيًّا للنقد الأدبي.
وأما علم البيان فأكثر صلة بالدراسة المعجمية منه بالقواعد التي تبحث في المعاني الوظيفية، فمجال علم البيان كمجال المعاجم، هو النظر في العلاقة بين الكلمة وبين مدلولها، ولقد كان البيانيون دائمًا على ذكر من الطبيعة العرفية لوضع الكلمة، ومن تخصيص كل كلمة بمعنى تدل عليه بحسب الوضع، فلا تكون أوسع منه ولا أضيق في الدلالة. وكما يختلف التحليل والتركيب في صناعة النحو على مثال ما ذكرنا من قبل يختلف معنى الوضع كذلك عن معنى الاستعمال في دراسة البيان، فالواضع يضع اللفظ لمعنى مطابق، فتكون دلالته على هذا المعنى من باب الحقيقة"، ولكن اللغة -أي لغة في العالم- أضيق في مجالها الفظي التي ترد على أخيلتهم، ومنها تصبح المعاني العرفية -أي: الحقيقية- للألفاظ قاصرة عن الوفاء بمطالب التعبير اللغوي، وفي مجال الأفكار المجردة والصورة والظلال بوجه خاص. ومن هنا يصبح التعبير اللغوي بحاجة إلى جواز الحقيقة العرفية إلى استعمالٍ آخر للفظ يسمى المجاز، وإذا نظرنا إلى المعاني المتعددة للفظ الواحد في أحد المعاجم فسنجد أحدها يفهم من اللفظ بطريق الحقيقة العرفية، ونجد بقيتها مجازات عن هذه الحقيقة، فإما أن يتضح فيها الطابع المجازي في وقتنا هذا، وإما أن يكون طول استعمالها في مجازٍ ما قد أحكم الربط بينها وبين هذا المجاز، حتى ليظنه غير الخبير به استعمالًا حقيقيًّا آخر للكلمة. وطرق المجاز معروفة مشهورة، فمن شاء فليرجع إليها في علم البيان، ولكن الذي لا بُدَّ أن نشير إليه هنا هو أن العناية في علم البيان إذ تتجه إلى دراسة اللفظ في دلالته على معناه العرفي "المطابقي"، أو للدلالة على "بعض معناه"، أو على "لازم معناه"، تجعل علم البيان قمة علم المعجم، كما كان علم المعاني قمة علم النحو. ومن هنا يصبح علم البيان في إطار الثقافة العربية هو النظرية الوحيدة التي تصلح نواة لغرس علم جديد في تربة هذه الثقافة، يسمَّى علم المعجم
1 / 19
Lexicology يتناول بالدراسة والتحليل والنقد والتأريخ والمقارنة تلك الطرق والمناهج التي استخدمها المعجميون العرب في جمع معاجمهم، موصيًا بأحسن الطرق التي وصلت إليها المناهج العلمية في هذا المجال في مختلف لغات العالم، ولعل لفظ "البيان" ومعناه "الشرح" يذكرنا بأن عمل المعاجم هو بيان دلالة الألفاظ واختلاف هذه الدلالة بحسب الاستعمال.
وأما الفرع الثالث من فروع البلاغة وهو علم البديع، فقليل من ظواهره ما يتصل بالمعنى كالجناس والتورية ونحوهما، وإن الجناس التام ليحمل بعض عناصر الشبه بالمشترك اللفظي؛ حيث يتحد اللفظ ويختلف المعنى، على أن جمهرة الظواهر البديعية ليست أكثر من محسنات لفظية -وكذلك سماها الأولون - فلا تدخل في دراسة المعنى العرفي دخولًا مباشرًا؛ لأن معناها أي: المقصود منها هو "التحسين"، وهو فني لا عرفي.
وإذا علمنا أن علم المعاني يتناول المعنى الوظيفي، وأن علم البيان يتناول المعنى المعجمي، وأن علم البديع يتناول صنعة فنية لا يتحتم فيها أن تتصل بالمعنى، علمنا أن البلاغة العربية لا تتناول المعنى الاجتماعي تناولًا مقصودًا، ولكنا على الرغم من ذلك قدمت لدراسة المعنى الاجتماعي أو المعنى الدلالي كما أسميه في هذا البحث، فكرتين تعتبارن اليوم من أنبل ما وصل إليه علم اللغة الحديث في بحثه عن المعنى الاجتماعي الدلالي، وأولى هاتين الفكرتين فكرة "المقال" Speech event، والثانية فكرة "المقام" Context of situation، وأنبل من ذلك أن علماء البلاغة ربطوا بين هاتين الفكرتين بعبارتين شهيرتين أصبحتا شعارًا يهتف به كل ناظر في المعنى: العبارة الأولى "لكل مقام مقال"، والعبارة الثانية "لكل كلمة مع صاحبتها مقام".
فأما العبارة الأولى فتؤكد أن استخراج المعنى من المقال فحسب، لا بُدَّ أن يشتمل على إغفال معيب لأهم عنصر من عناصر المعنى وهو "المقام"، أو الظرف الذي حدث فيه "المقال"، وسوف يتضح لنا فيما بعد عند دراسة المعنى الدلالي خطر هذا العنصر الاجتماعي "عنصر المقام" من عناصر المعنى.
1 / 20
وأما العبارة الثانية فتلخص الصلة بين ظاهرة التضام Collocation في اللغة العربية وبين المعنى اللغوي الدلالي الاجتماعي، وهي ظاهرة سنقوم بدراستها كذلك عند النظر في المعنى الدلالي في هذا الكتاب. وسيتضح من هذه الدراسة أن أقسام المقامقت الاجتماعية ترتبط بتعبيراتٍ يتمّ فيها التضام بين الكلمات مختلفًا باختلاف المقام، فهاتان العباراتان مما خلَّفه البلاغيون في تراثهم الثمين تعتبران من نتائج المغامرات الفكرية في دراسة اللغة في الغرب المعاصر.
وفي فرع آخر من فروع الثقافة العربية هو أصول الفقه، دراسة للمعنى على مستوى استنباط الأحكام الفقهية من النصوص، وهو أمر يثير في الذهن مقابلة فكرية بين هذا وبين استنباط الأحكام المنطقية من القضايا، مما يبرر دعوى وجود منهج فكري إسلامي مغاير للمنهج الآخر الإغريقي لاستنباط الأحكام والنتائج من النصوص. ولكن المعنى في الحالتين -حالة الأصوليين وحالة المناطقة- "حكم" أي: إنه ليس عرفيًّا ولا اجتماعيًّا، وإنما هو عقلي فني لا صلة له بالعرف العام، وإن اتصل بعرف خاصٍّ هو عرف الأصوليين أو عرف المناطقة. وكما نظر المناطقة في المطابقة والتضمن واللزوم والماجرى والماصدق والحد والمقولة والجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، وفي المقدمة الصغرى والكبرى، وفي الكلية والجزئية، وفي السالبة والموجبة، نظر الأصوليون في مفاهيم اقتضاها منهجهم، سواء من حيث العلاقة بين الكلمة ومدلولها، أو من ناحية القواعد الأصولية العامة، أو من ناحية طريقة الحكم. فأما من حيث دلالة الكلمة فقد قسَّموها باعتبارات مختلفة هي: الوضع والاستعمال والوضوح والقصد، ولكن اختلف نظر الحنفية عن نظر الشافعية بالنسبة لدلالة القصد، كما يبدو من التخطيطين التاليين:
1 / 21
ومثل القواعد الأصولية في استخراج الأحكام؛ مثل الترتيبات الشكلية للقضايا المنطقية، وكما يكون الحكم المنطقي بالصواب أو الخطأ يكون الحكم الأصولي بالوجوب أو الإباحة أو التحريم، فالمعنى الأصولي إذًا من قبيل المعاني العقلية لا العرفية، ومن الفنية لا الاجتماعية، ومع ذلك ينبغي لنا أن نشير هنا إلى أن الأصوليين قد أبلوا بلاء حسنًا في تحديد المعنى على طريقتهم، وأنهم أثناء تقسيمهم لدلالة الكلمة قدَّموا لنا نوعًا سلبيًّا هامًّا جدًّا من هذه الدلالة، اصطلحوا على تسميته: "مفهوم المخالفة". ولهذا المفهوم قيمة خاصة لدينا الآن عند الكلام عن "القيم الأخلاقية" التي تتكّون منها الأنظمة اللغوية على نحو ما سنرى بعد قليل، وكلاهما يذكرنا بفكرة الخلاف التي قال بها الفراء من النحاة.
والذي تقدَّم يحكي قصة موقف التراث العربي والإسلامي من قضية المعنى، أما الغربيون من الناظرين في المعنى فقد تعددت هوياتهم ومشاربهم، فقد نظر في المعنى كثير من فروع الدراسات الإنسانية كالفلسفة والمنطق وعلم النفس والأنثروبولوجيا والأدب واللغة وغيرها. ولقد اختلفت النظرة إلى المعنى باختلاف هذه الفروع وبحسب اهتمام كل فرع منها بجانب خاصٍّ من جوانب المعنى، فأما الفلاسفة فيتناولون دراسة المعنى في كلامهم عن "الأبيتستيمولوجيا"، وهي فرع من الفلسفة يدور حول نظرية المعرفة، وهم يدخلون إلى الكلام في مشكلة المعنى من مدخل العلاقة بين الدوالّ والمدلولات١، ويستطيع من يشاء النظر في ذلك أن يطّلع على كتاب The Meaning of Meaning الذي ألفه العالمان الإنجليزيان l A Richards CZ Menging، وقد حدّد موضوعه في عنوانه بأنه A Study of the lnfluence of Langugage Upon Thought and of the Science of Symbolism. ولقد عالجا في هذا الكتاب موضوعات فلسفية على جانب عظيم من الأهمية كما يتضح من عناوين فصوله التي نكتفي بإيرادها هنا عن استعراض الكتاب نفسه.
_________
١ Ogden and Richards The Meaning of Meaning
1 / 24
١- Thoughts Words and Things ويدرسان به العلاقة بين الفكرة والكلمة والشيء.
٢- The Power of Words ويوضحان به أهمية الكلمات واللغة وارتباطهما بالمعتقدات البدائية.
٣- Sign Situations ويعالجان فيه الارتباط بين نظرية المعنى ونظرية الرمز.
٤- Signs in Perception ويهتمان فيه بعلاقة الرمز بالإدراك.
٥- canons of Symbolism ويعددان به قوانين الرمز، وهي الوحدة والتحديد والتوسيع والفعلية والتلاقي والفردية.
٦- Definition ويحاولان به بيان حدود الرموز.
٧- The Meaning of Beauty وفيه تطبيق على حد الجمال واختلاف الفلاسفة فيه وانتقاد لموقف اللغويين من المشكلة واعتذار عنهم.
٨- The Meaning of Philosophers وفيه نقد لموقف الفلاسفة من المعنى.
٩- The Meaning of Meaning ويأتيان فيه باستعراض لستة عشر تعريفًا للمعنى مقسَّمَة إلى أربعة أقسام رئيسية.
١٠- Symbol Situations وبه نظر في كنه الدلالة وتركيب الرموز وطريقة الرمز وتعدد وظائف اللغة والآثار الاجتماعية والعلمية لفهم اللغة بوضوح.
وربما كان من المستَحْسَن أن ننبه هنا إلى أن طريقة الفلاسفة في علاج المعنى لا تفيد الدراسات اللغوية منها إفادة مباشرة؛ لأن الفلاسفة يهتمون بالعلاقات الذهنية على حين يهتم اللغويون بالعلاقات العرفية التي تربط بين المبني والمعنى، وإذا اهتمّ الفيلسوف بكنه العلاقة اهتمّ اللغوي بشكل العلاقة بين الرمز وبين مدلوله. ويهتم اللغيو فوق ذلك بنوع من المعاني ينسب إلى الأجزاء التحليلية يسمى المعنى الوظيفي، كم يربط بين المقام وبين المعنى
1 / 25
ربطا مقصودًا، وهما أمران لا يهتم بهما الفيلسوف كثيرًا، لأن التأملات الفلسفية عودت نفسها في الغالب على الاتجاه إلى الشق المعجمي من المعنى، وهذا الشق خاص بالكلمات المفردة فقط.
وأما المناطقة -وقد سبقت إشارة سريعة إليهم عند الكلام عن الأصوليين- فقد انشغلوا بالمعنى على مستوى المنطق الشكلي الأرسطي الذي لم يفصل فيه بين المنطق وبين اللغة من وجهة النظر الدراسية. فلقد خلط أرسطو أول الأمر بين هاتين الدراستين، فتكلم في اللغة كلامًا منطقيًّا، وتكلَّم في المنطق كلامًا لغويًّا، واختلط في ذهن المناطقة الشكليين النظر إلى الموضوع، والمحمول بالنظر إلى المسند إليه والمسند، وبنى المنطق قضاياه العقلية من جمل لغوية، وخلط بين القواعد النحوية والنتائج المنطقية، فسمّى كلتيهما "أحكامًا"، وأصبحت قواعد النحو من ثَمَّ "أحكامًا" نحوية، فوقع الفكر في أسر اللغة كما وقعت اللغة في أسر المنطق. وكان من الخير لكلٍّ منهما أن يستقلّ بطريقة علاجه لقضاياه؛ لأن منطق اللغة ومقولاتها يختلفان تمامًا عن منطق الفكر ومقولاته، واللغة آخر الأمر نمطية صياغية لا تخضع للفكر، وإنما تخضع لمقتضيات الرمز العرفي الاعتباطي، فليس في الفكر ما يبرر تقسيم الأشياء بين التذكير والتأنيث حتى الجمادات منها، وليس فيه ما يبرر تقسيم العدد النحوي إلى "مفرد" للفرد، و"مثنى" للاثنين، ثم شمول كل عدد بعد الاثنين تحت عنوان موحد هو "الجمع". وليس في الفلك ما يسمح بدلالة "فَعَلَ" على المستقبل في نحو قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح﴾ وهلم جرّا، والمعروف أن اللغة أضيق من الفكر، وهذه دعوى تتضح عند التصدي للترجمة من لغة إلى لغة أخرى. فلا شك في أن المترجم العربي يجد صعوبة في ترجمة كلمة أجنبية مثل Standardization أو كلمة Monads أو كلمة transendental، كما لا أشك في أن المترجم الإنجليزي يجد صعوبة في ترجمة بعض الكلمات العربية مثل: "المدبر" و"المكاتب" و"الجذعة" و"الظعينة" و"الحيزبون" و"أهل الخطة". والمغزى الواضح لذلك أن كل لغة في العالم إنما تسمّي تجارب مجتمعها، وتقصر دون تسمية تجارب المجتمعات الأخرى، وبذا تضيق عن أن تشمل مجالات الفكر
1 / 26