بيان
تمهيد
مقام الكائنات في الطبيعة
تأثير العلم الطبيعي في الأديان
غرابة آرائي الاجتماعية
تأثير العلم الطبيعي في العمران
فصل في الجنايات والاجتماع
فصل في العلم والتعليم
نظرة في أحوالنا
بيان
تمهيد
مقام الكائنات في الطبيعة
تأثير العلم الطبيعي في الأديان
غرابة آرائي الاجتماعية
تأثير العلم الطبيعي في العمران
فصل في الجنايات والاجتماع
فصل في العلم والتعليم
نظرة في أحوالنا
آراء الدكتور شبلي شميل
آراء الدكتور شبلي شميل
تأليف
شبلي شميل
بيان
نشرت جريدة الأخبار منذ مدة للكاتب أ. ش. انتقادا على كتاب خالد للريحاني، جاء فيه تعريض بآرائي وأنها آراء غريبة، فكتبت ردا على ذلك وبعثت به إلى نفس الجريدة فلم يتيسر لها نشره، ولما كان هذا القول يشبه أن يكون صدى رأي الجمهور أكثر من أن يكون رأي الناقد الخاص، ولئلا يرسخ في الأذهان أن الغرابة هي دائما في مخالفة الشائع المشهور، رأيت أن أنشر هذه الكلمة في رسالة على حدة جلاء للحقيقة؛ عملا بقولي: «الحقيقة أن تقال لا أن تعلم.» فقط.
مصر سنة 1912
تمهيد
قال الكاتب أ. ش: «وأما أراؤه - أي صاحب كتاب خالد - الدينية والاجتماعية والفلسفية، فمعظمها غريب عن الرأي الغالب بين طوائف الإنس والجن، بعضها أغرب من آراء الدكتور شميل.»
أنا لم أقرأ كتاب خالد لأقف على حقيقة هذه الغرابة فيه وموضعها من الصحة وعدمها، وإنما أنا أقدر أن أتكلم عن آرائي الدينية والاجتماعية والعلمية ولا أقول الفلسفية؛ لأني لا أحب أن أعنى كثيرا بالفلسفة، إلا ما كان منها من قبيل الاستقراء العلمي فقط؛ لما تجر إليه غالبا من السفسطات البالغة إذا شردت عن العلم، بل أنا أكره جدا الانتساب إليها.
فإذا كان الخروج عن مألوف الناس ولو إلى الصواب يعد غرابة فآرائي غريبة عن الرأي الغالب بين طوائف الإنس، وأما طوائف الجن فليس لي علم بها وبآرائها، ولكن معنى الغرابة هنا يتناول البعد عن الصحة أيضا.
فآرائي الدينية والاجتماعية والعلمية ليست غريبة عن العلم اليوم، وهي ليست من الآراء الفلسفية التي يتسع مجال التخريج فيها لكل مفكر غير مقيد بقيد علمي، بل هي نتيجة لازمة لأبحاث علمية خارجة من معمل الطبيعي وداخلة في بوتقة الكيماوي وواقعة تحت مشراط المشرح، ولا سبيل للخروج عنها إلا بالوقوع في الغريب. لا يجوز أن ترمى بالغرابة إلا إذا جاز أن تكون الأحكام الاجتهادية أصدق من الدليل الاختياري والنظر المجرد أصدق من الحس.
فالناس لا يستغربون التسليم بالعالم غير المنظور، ولو لم يكن عليه أقل دليل علمي؛ لانطباقه على الرغائب ونحن معهم لو كل ما يتمنى المرء يدركه، ولتمنينا وجودا أفضل خالصا من كل ما يريب، ولكن العلم الذي نعنيه شيء آخر غير المتمنيات، وهم يشهدون تغير نظامات الاجتماع في العصور، ولكن يستغربون المطالبة بهذا التغيير في كل عصر، وهو أمر من الغرابة بمكان.
فإذا قلنا أن العالم ليس فيه فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام. فليس فيه مادة غريبة أو قوة غريبة تدخل إليه أو تخرج منه، وأن لا فرق في المبدأ ولا في المعاد بين جميع الكائنات من أعلى الإنسان إلى أدنى الجماد، فجميعها في تكوينها من عناصر طبيعية واحدة وتتمشى في أفعالها على نواميس طبيعية واحدة مشتركة بينها جميعا، فأين الغرابة في هذا القول؟! وهل في العلم اليوم ما ينقض ذلك؟! أوليس كل علم يعلم غير ذلك أشبه بالتخرص منه اليوم بالعلم؟!
وإذا قلنا إن العمران جسم حي كسائر الأحياء له أعضاؤها ونواميسها وتحولاتها وصحتها وسقمها، وإن ما ينطبق عليها في جميع خصوصياتها ينطبق عليه، فأين الغرابة في ذلك؟! أليس من المقرر اليوم في علم الاجتماع الطبيعي أن العمران حيوان، ولكنه حيوان هائل، أفراد البشر فيه كالكريات الحية في الأحياء؟! لعلنا إذا عرفنا ذلك جيدا يسهل علينا أن نفهم كيف يجب أن نجعل كل عضو من أعضائه نافعا ومنتفعا معا؛ لئلا يكثر في الأعضاء العاطلون ويكونون فيه حينئذ كالكريات المتعفنة أو كالأخلاط الرديئة التي تتهدد سلامى الجسم الحي، عسى أن تقل الجنايات وتتوافر المنفعة وينصرف الاجتماع إلى ما يرقيه. والعلم باجتناء العمل وتوفير المنفعة يشبه علم الهيجين؛ أي علم حفظ الصحة الذي يقاوم الأمراض بمقاومة أسبابها، فلا يكفي أن تكون لنا شرائع فقط لمعاقبة الجاني، بل يلزم أن يكون لنا نظامات وتعاليم كافية لاجتناب أسباب الجنايات تكون موافقة لطبيعة العمران ومنطبقة على حاجاته المتزايدة كل يوم، كما أنه لا يكفي أن يكون لنا طب شاف لمداواة الأمراض بل يفضل عليه الطب المنعي الذي هو غرض الطب الأكبر خصوصا اليوم؛ لئلا يبقى الاجتماع بأيدي ساسته كما كان الطب بأيدي الدجالين: «فصادة وشربة وودى على التربة.»
وإذا عرفنا أن الاجتماع حي كسائر الأحياء عرفنا أيضا أنه خاضع لنواميس الطبيعة العامة نظيرها، فلا نجعل سبيلا لتراكم القوى وتجمعها فيه، فلا نناهضه كلما نهض إلى حق له ونقاومه بجمودنا مقاومة عمياء؛ لئلا يفعل ذلك فيه فعل الضواغط القاسرة في الطبيعة فيهب إلى ثورات تمزق أحشاءه وتقهقره كما تمزق البراكين أحشاء الأرض، بل نقوده إلى مصلحته الكبرى التي هي مصلحة كل واحد منا ونحسن هدايته بما نكتسبه كل يوم بالعلم والاختبار؛ ليسير في مدارج الارتقاء سيرا حثيثا سليما يكون لنا فيه فضل العلم والعقل؛ لئلا تنفرد نواميس الطبيعة بنا وتدفعنا إلى ذلك قسرا ولكن بعد أن تذيقنا الأمرين.
1
وإذا عرفنا ذلك، أفلا يكون أصلح لمصلحة العمران إذا قام واحد وقال قولا مخالفا لمألوفنا، أن نتدبر قوله أولا عسى أن يكون فيه الصحيح الذي ننشده والصالح الذي نبتغيه، عوضا عن أن نرمي آراءه بالغرابة؛ فتزيد الجمهور إعراضا ولو عن التفكير البسيط فيما قد يكون فيها من الصواب؟! حتى يرسخ في الذهن أن المألوف هو دائما الحق وأن مخالفة الآراء الشائعة والاعتقادات الراسخة والنظامات المقررة لا يجوز؛ فتكم الأفواه وتخرس الألسنة عن الانتقاد في الأمور الاجتماعية إذا كان هذا الانتقاد مخالفا للمقرر، ولو أن الخطأ والضلال يرشحان من أذيال هذا المقرر ويملآن الأرض حوله بؤرة آسنة،
2
أم الأفضل لمصلحة الاجتماع كلما اكتشف العلم حقيقة مخالفة لرأي الجمهور أن نتكتم بها؛ لئلا نغضب هذا الجمهور إذا صرحنا بها أو نذكرها كما يريد حكماء الاجتماع وفلاسفته النفعيون الذين يذهبون مذهب القائل: «بعد كديشي ما يعيش حشيش!» أو بعبارة أرقى: «وبعدي الطوفان.» فنلبس الجرن
3
ونشير برأسنا إشارة خفيفة، مقرونة بابتسامة معنوية لطيفة كأننا نريد أن نقول إننا نعلم، ولكن ما كل ما يعلم يقال. لئلا يجر علينا التصريح ضررا ويفقدنا منفعة، وهو برهان وجيه كثيرا ما يحس به المتعرض له، ولكن برهان العلم أوجه في نظر البعض على قلة جناه، والعلم الذي أعنيه هو علم خبرة ويقين لا علم حدس وتخمين، فقبل أن تصح عليه غرابة تتكدس الغرابات على سواه بالملايين.
مقام الكائنات في الطبيعة
قبل أن قام العلم الطبيعي على أسس راهنة في القرن الماضي كان العلم بطبيعة الكائنات ناقصا جدا، وكان الاعتقاد أن مواليد الطبيعة منفصلة بعضها عن بعض انفصالا جوهريا، إن لم يكن في المواد الداخلة في تكوينها ففي القوى التي تفعل في هذه المواد، لا بل كان الاعتقاد أن كل نوع من الأنواع الحية خلق خاص أيضا ثابت لا يتغير، فكانوا يعتقدون أن القوى التي في النبات من غير طبيعة القوى التي في الجماد، والتي في الحيوان غير التي فيهما.
وكان العقل خاصة ميزة الإنسان وحده ومن جوهر مستقل عن جوهر عقل الحيوان، وأن في الإنسان غير ذلك جوهرا خاصا سائدا غريبا عن الطبيعة المحسوسة هبط إليه من العلي هو النفس، وهي التي تفاره إلى من مكانها الأسمى وتحفظ له عينه في العالم الروحاني بعد الموت، كل ذلك من دون أدنى دليل غير ما كان يبدو لنا من الفرق في أفعال الإنسان عن سائر الكائنات، وهو معذور حينئذ؛ لأنه لم يكن يعلم أن هذا الفرق نسبي فقط، خصوصا مع أقربها إليه - أي الحيوان - فلما ترعرع العلم الطبيعي واكتهل، سقطت كل هذه الحواجز بين الكائنات في الطبيعة واتضح حينئذ أنها جميعا من حي وجماد وإنسان وحيوان من أصل واحد مشترك في موادها وقواها، وأنها جميعا متحولات بعضها إلى بعض ومنحلات بعضها إلى بعض، فمادة الدماغ من طبيعة العناصر التي تنحل إليها، وأفعال العقل الراقي من جنس الألفة الطبيعية التي في هذه العناصر، وإن بدا لنا ذلك غريبا بين طرفي سلم الكائنات من أدناها إلى أعلاها، فليس هو بهذه الغرابة للمتدرج فيها، وما هو بأغرب كذلك من أفعال سائر القوى في مظاهرها المختلفة ... فتحريك الآلات بالكهربائية ونقل الأصوات بالتلفون، وحفظها في الفونوغراف ورسم الصور المتحركة في السينماتوغراف، ونقل الأنباء بالتلغراف السلكي واللاسلكي مما لو سمعنا عنه في أوائل القرن الماضي لنسبناه إلى الجن، هي جميعها من أصل الكهربائية البسيطة المعروفة من عهد طالس اليوناني، والتي تجذب إليها قصاصات الورق وقصالات القش مع الفرق الجسيم بينها في الظاهر، وليس من غرضنا أن نثبت كل ذلك هنا بالتفصيل؛ لأن المقام لا يتسع له أيضا، بل نوقف القارئ على النتيجة الكلية الكبرى التي أقرها العلم اليوم باتفاق علماء الطبيعة أجمع، وهي أن الإنسان بمواده وقواه طبيعي هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة وموجود فيها.
فإذا كان العلم اليوم يرى أن المواد والقوى الموجودة في الطبيعة والمشتركة بين سائر كائناتها، كافية وحدها لتفسير جميع تحولاتها وأفعالها البسيطة والمركبة الراقية، فأية حاجة بنا بعد ذلك إلى القول بقوى غريبة لا يدل عليها العلم؟! وليس لنا أقل دليل علمي كذلك على وجود غير منظور ما دام كل شيء تقوم به مواليد الطبيعة موجودا في العالم المنظور ينشأ فيه ويعود إليه، حتى ولا دليل فلسفي كذلك يستقي مصادره من العلم، فلم يبق إلا أن الخروج إلى غير العالم المنظور اجتهاد منا مرضاة لرغائب ومتمنيات غريبة هي نفسها، والتثبت من العلم يزيدها كل يوم غرابة.
تأثير العلم الطبيعي في الأديان
أما غرابة آرائي الدينية فليست إلا لكونها مخالفة للآراء الغالبة بين الناس في أصل الإنسان وحقيقته في هذا الوجود، وقد كان الاعتقاد في القديم أن أصل الإنسان غير ما قرره العلم اليوم، فكانت الآراء الدينية حينئذ متناسبة مع ذلك الاعتقاد، وأما اليوم وقد قرر العلم أن الإنسان كسائر الأحياء في الطبيعة ليس فيه شيء غريب عنها لا في مواده ولا في قواه، فصارت الأفكار الدينية القديمة غير صالحة لأن تكون نتيجة لازمة لهذا العلم، وصار التوفيق بينها وبينه غير ميسور لها بالعلوم العقلية الفلسفية وغيرها من علوم الكلام كما كان في القديم، ومهما بذل من الجهد اليوم في ذلك فالعلوم الطبيعية تنفيه.
ولكن إذا كان البحث من هذه الجهة في الأديان يبدو عقمه في العلم، فقد اتسع له المجال كثيرا من جهة علاقتها بالإنسان في أطوار نشوئه الأدبي وتقلبها معه في العصور، وقد نشأ الإنسان في معبوداته وتحول فيها كما نشأ وتحول في كل شيء له علاقة شديدة به كعاداته ولغاته ونظاماته جميعها، فلم تكن عباداته في أول أمره كما هي اليوم في أديانه الكبرى، بل كانت بسيطة جدا عبارة عن خوف فقط لم ينظر فيه أولا إلا إلى مصلحته القريبة، فعبد كل من رأى له سلطانا عليه، وكم عبد الناس ملوكهم وألهوهم في القديم! ولجهله في أول نشوئه لم يدع شيئا في الطبيعة ضارا أو نافعا، عظيما أو حقيرا، مرغوبا أو مرهوبا، إلا وتوهم فيه ذلك فعبد الحجر والشجر والحيوان والإنسان نفسه، ولم ينتقل بمعبوده إلى ما وراء المنظور إلا بعد أن ارتقى ورأى فساد معبوداته في أشياء هذا الوجود المشهود.
ففكرة البقاء بعد الموت لم تكن به في أول الأمر، أو كانت غير معينة ولم تنشأ فيه إلا بعد ذلك بزمن طويل، فارتسمت له حينئذ مرارة الموت ودفعته إليها محبة الذات
1
حرصا على بقاء العين، وهي حتى اليوم ليست في كل الأديان على حد سوى، والتوراة خالية منها ولا عبرة بالتأويل. ولم تتحول العبادات إلى أديان ذات غرض اجتماعي وانتظمت شرائع أكثرت من التهديد بالعقاب والترغيب بالثواب إلا بعد أن ارتقى الإنسان كثيرا، وانتظمت مجاميعه وأصبحت الشرائع المدنية بأيدي الأقوياء آلة يتصرفون فيها لمصلحتهم، فصار من اللازم لمصلحة الاجتماع وضع نظام يكبح جماح الجبابرة الظالمين ويخفف عن الضعفاء المظلومين؛ فهي من هذه الجهة شرائع اجتماعية أيضا، وإنما جعل سلطانها فوق سلطان أعظم عظيم في البشر لغرض اجتماعي واضح ، على أنها عادت في أيدي الرؤساء كما كانت الشرائع المدنية بأيدي الملوك أنفسهم، ولكنها مع ذلك هونت على الإنسان تحمل الظلم في دنياه بقدر ما فسحت له من الأمل في أخراه.
فترى أني لم أتعمد في مباحثي نفي الأديان لغرض في النفس ولم أنفها بكلام ألقيته جزافا، وبرأي فلسفي خاص أو مقتبس كما يتوهم أكثر الذين يسمعون بي ولم يقرءوا مني شيئا، ولم أتحذلق فيها كما يفعل كثيرون اليوم ممن لا يسلمون بالنتيجة العلمية كما هي لئلا تسقط رغائبهم، ولا يقفون في اعتقادهم عند حد الأديان المعروفة، بل يذهبون فيها مذاهب خاصة كل منهم على هواه؛ لئلا يقال: إنهم متقهقرون، ومثل هؤلاء مثل من أسلم الظهر ومات العصر؛ فعيسى أنكره ومحمد لم يعرفه، وإنما التزمت فيها جانب العلم، وأريد بالعلم العلم الطبيعي القليل الانتشار اليوم لا علم الجدل النظري الذي يستطيع أن يطرقه كل مفكر، بل أنا أكره جدا كل بحث مبني على النظر المجرد. وفي اعتقادي أن وقوف العمران متباطئا في السير متباطئا في الارتقاء ومتقهقرا أحيانا كثيرة سببه الأكبر أن أكثر علومه حتى اليوم علوم مجردة، ولطالما صرفته في الماضي عن القريب منه إلى البعيد عنه، أليس من الغريب أن يكون الإنسان قد خبر غير المنظور وبحث السماوات العلى، وقاسها بالشبر وعرف طوائف الجن وعدد الملائكة والأبالسة، قبل أن يتعرف أديم الطبقة الأولى من الأرض التي تطؤها قدمه كل يوم والتي هي منشأ ذائه ومنبت كسائه والتي هي مهده والتي هي لحده؟!
وأنا لم أنظر إلى الأديان نظر المستخف بل بحثت فيها كما بحثت في كل شيء متعلق بالإنسان ككائن طبيعي تقلب على أطوار مختلفة في نشوئه، وهي في اعتقادي نفعت كثيرا وأضرت كذلك، ككل نظام يكون نفعه أكثر من ضرره في أوله، ثم ينقلب في أيدي أتباعه إلى الضد أو أنه لا يعود يصلح، شأن كل موضوع لا بد من تعديله على الدوام ليوافق روح كل زمان ومكان.
ولا أظن أنه يوجد بين المؤمنين أنفسهم من هو أشد إعظاما مني لواضعي الأديان الذين أعتبرهم من أكبر رجال الإصلاح، وربما التمست لهم عذرا في التعويل عليها لنشر دعوتهم الإصلاحية؛ لما فيها من الترغيب المشهي والإرهاب المخيف، ولا سيما في ذلك الزمان الذي كانت الأفكار فيه متشبعة بمبادئها القوية وأسرارها الخفية، ولكني مهما عظمتهم وعظمت سواهم من المصلحين، فأنا لا أتحول عما أقول أيضا: «إن مصلح اليوم لا يلبث أن يصير رزئا كبيرا وعبئا ثقيلا على مصلح الغد.» لوجوب التعديل على الدوام في كل إصلاح مهما كان، والإنسان من طبعه الجمود في كل من يألفه، فلا يسهل عليه الانتقال فيه إلا إذا بلغ من العلم مبلغا قصيا.
فإذا كنت قد قمت على الأديان من الجهة العلمية؛ فلأنها لا مسوغ لها في العلم، ومن الجهة الاجتماعية؛ فلأنها أضرت كثيرا بجمودها وجمود أتباعها بها، كما قمت أيضا على سائر الشرائع الموضوعة والتباطؤ في الانتقال بها، ومن منا ينكر ما ارتكب وما لا يزال يرتكب من الفظائع كل يوم باسم الأديان، وهي أشد هولا كلما كانت الأمم أشد توغلا في الجهل؟! بل من منا لا يرى هول الموقف إذا شاء التحول بها إلى ما يكون أوفق لمصلحة العمران؟!
غرابة آرائي الاجتماعية
أما عن غرابة آرائي الاجتماعية؛ فالغريب فيها أن ترمى بالغرابة، كأن المألوف للناس في نظام الاجتماع هو النظام الصالح لهم دائما؛ للرضى به وعدم السعي للتحول عنه إلى ما يكون أوفق لمصلحة العمران، والواقع ينقض ذلك؛ فنظام الاجتماع يتغير على الدوام طبقا للناموس الطبيعي القاضي بأن كل شيء في الطبيعة متغير، فيجب إذن أن لا نصده بما نضعه له من الشرائع والنظامات عن هذا التحول طبقا لحاجات أعضائه المتغيرين هم أنفسهم؛ لئلا يوجب ذلك فيه اختلالا في التوازن يفضي به إلى غير المقصود منها، بل يجب أن نجعل له في هذه الشرائع متسعا لسرعة هذا التحول إلى الأصلح لنقيه بذلك شر عواقب الإبطاء في هذا الارتقاء.
والناظر إلى نظام الاجتماع في التاريخ يجد أنه تغير كثيرا في العصور، وأنه اليوم أصلح بكثير مما كان في الماضي، ولكنه يجد أيضا أنه تباطأ جدا في هذا التغير وهو حتى الآن لا ينطبق كثيرا على مصلحة العمران؛ لأن الشرائع التي تولت سياسته في كل هذه الأحقاب الطويلة والتي لا تزال تسوسه حتى اليوم، لم تعرف كيف توفر له الانتفاع من جميع القوى التي فيه فأكثرت من التبذير فيها؛ مما جعله كثير التقهقر كثير الوقوف بطيء الارتقاء، وهو لا يزال حتى اليوم شديد التنازع قليل التضامن كثير الاضطراب، فعدم معرفة توفير العمل يجر إلى الفاقة والفاقة تدفع إلى الجناية، وعدم توزيع الفائدة على قدر العمل يؤدي إلى التذمر، والظلم المتناهي يدفع إلى الثورة، كما أن عدم الاعتناء بوسائل صحة الأفراد يولد الأمراض ويعرض المجتمع لفتك الأوبئة؛ لأن ناموس التكافؤ الطبيعي في العمران صارم جدا لا يرحم ولا يقبل تأجيلا،
1
فإذا كانت الشرائع حتى اليوم لم تعرف كيف توفر له هذا الانتفاع وتدرأ عنه شر إغفالها؛ فلأن مبدأها مخالف لطبيعته التي قررها له العلم اليوم؛ فالشرائع المدنية جعلت أساس توازنه دفع الشر ولاذت فيه إلى العقاب، وقد يكون القائمون بهذه الشرائع من أكبر أسباب هذا الشر فيتناهون هم ويتفاقم هو. وزادت الشرائع الدينية على العقاب الثواب للترغيب بالجزاء الحسن، وتوسلت التعاليم الأدبية منها بالحض على الإنسانية ليكون هناك محل واسع للرحمة، والرحمة كرم من النفس كثيرا ما يلهو الإنسان عنه،
2
والثواب مؤجل عسى أن يرجع الإنسان ويستحقه بتوبة وندامة تمحوان كل إثم، بخلاف الشرائع الطبيعية التي تجعل أساس هذا التوازن التكافؤ القاضي بأن كل عمل يعمله الفرد في الاجتماع، أو يعمله الاجتماع للفرد تعود نتيجته على عامله خيرا كانت أو شرا، كما هي الحال في الجسم الحي وفي سائر أفعال الطبيعة نفسها، وحينئذ يصير العمل لمصلحة العمران من قبيل «الواجب»، وإلا تراجع إليك صداه في الحال فلا يدعك تغفل عنه لحظة إلا وقد غفلت عن أقرب المصالح إليك.
وهذه الحقيقة لم تتقرر للاجتماع على أساس علمي طبيعي مكين إلا من عهد قريب، مع أنها بسيطة للغاية شأن كل الحقائق التي غيرت وجه العلم والعالم؛ كمذهب الجاذبية العامة ومذهب التحول، فقد فنيت الأجيال في الأجيال قبل أن أهتدى إليهما وظهرا بالبساطة التي يبدوان بها لنا اليوم، كأن الصعوبة في الحقيقة ليست في العثور عليها بل في إرادة البحث عنها، حتى قال بعضهم: «الصعوبة في الحقيقة هي أنك تجدها كلما بحثت عنها.»
فأنا لا أطلب المستحيل في الأمور الاجتماعية بل أطلب التمشي في نظام العمران على النواميس الطبيعية نفسها والاسترشاد بها لاجتناب عثراته وتسهيل ارتقائه، عسى أن يصبح كل أعضائه عاملين نافعين منتفعين معا، فلا يكون هناك تبذير في قوى الاجتماع، ولا حيف على الأفراد يعودان بالضرر على المجتمع، وهو أمر ميسور لولا أثرة المستأثرين وغفلة الجاهلين.
تأثير العلم الطبيعي في العمران
مهما يكن من أمر هذه الحقيقة العمرانية - أي العمل من قبيل الواجب - وبساطتها فالعمل بموجبها عن روية وعلم لا يزال في أوله؛ لأنها كما قلنا لم تتقرر إلا من عهد قريب؛ أي بعد أن نهضت العلوم الطبيعية نهضتها العجيبة في القرن الماضي، وشرع علماء الاجتماع الطبيعيون يطبقون نواميس الأحياء على العمران نفسه باعتبار كونه جسما حيا نظيرها، ولقد تقدمت العلوم الطبيعية في هذا الزمن القصير تقدما لا يحاكيه تقدم في كل العصور الماضية، ولكن من الأسف أن العمران لم يتقدم في هذه المدة في نظاماته وشرائعه ومعاملاته، وسائر أموره الأدبية على نسبة تقدمه في مخترعاته وصناعاته وسائر مادياته، بل هو في بعضها لم يتقدم مطلقا أو تقهقر أيضا، فهو اليوم مضطرب جدا للتنافر الشديد بين القديم الموروث الراسخ فيه، والجديد الحادث وصعوبة التوفيق بينهما للاستقرار فيهما على ما لا بد منه أخيرا، فالعمران معهما اليوم في طور يعرف بطور الانتقال كثير المعايب شديد الخطر عليه، فنظامه كالثوب البالي المرقع لكثرة القديم فيه حتى الآن، فإذا بدت التعاليم العمرانية الجديدة كثيرة المعايب حتى اليوم، وبدت كذلك غريبة للبعض؛ فالسبب واضح من أنها لا تزال حديثة العهد جدا.
وإذا كان العمران لم يتقدم في نظاماته على نسبة تقدمه في مادياته فلا يستفاد من ذلك أنه لم يتقدم، بل هو تقدم كثيرا عما كان في الماضي القريب حتى في البلاد التي ليس لها حظ وافر من هذا العلم؛ لأنه إذا كان المرض يعدي والشر يعدي فالصحة تعدي والخير يعدي أيضا.
فقد بقي الاجتماع في الماضي آلافا من السنين، وهو على حال من المدنية تكاد تكون واحدة في كل العصور منتقلة فيه انتقالا بسيطا فقط من مكان إلى مكان ومن قوم إلى قوم، وارتقاؤه في الأجيال بسيط جدا يكاد لا يشعر به، وعامله في هذا الانتقال السيف السليط، وكثيرا ما كانت تسطو البربرية على المدنية فتطفئ نورها إلى حين، وقد كانت علومه حينئذ علوم كلام وجدل أكثر منها علوم اختبار وعمل، ومراميه مرامي بعيدة أكثر منها قريبة، وكان نظره إلى ما وراءه أو فوقه أكثر منه إلى ما أمامه، إلى أن وجه نظره إلى الطبيعة المحسوسة، حينئذ أخذ يخطو في ارتقائه خطى الجبابرة إلى أن صارت خطاه في أيامه وسنيه كما كانت في الماضي في قرونه وعشرات قرونه، والناظر إلى العالم اليوم منذ قرن لا يذهب عليه ذلك، وعامله اليوم العلم، والعلم العملي فقط، وإذا كان لا يزال للسيف محل واسع في ذلك فهو اليوم خادم العلم، ولا يستطيع سيف الهمجي التغلب عليه كما كان يحصل كثيرا في الماضي، فالسيف اليوم مع العلم عامل «انتشار» لا عامل «انتقال»، والعلم اليوم منارة عالية تبعث بأشعتها إلى كل الأقطار.
من كان يظن من خمسين سنة أن النظام الدستوري تقدم عليه الهيئة الحاكمة من تلقاء نفسها كما حصل في اليابان؟! أو تنقاد إليه من دون مقاومة أو بمقاومة خفيفة كما حصل من عهد قريب في المملكة العثمانية وكما هو حاصل اليوم في الصين؟!
بل من كان يظن أن مطالب العمال تقابل بالإصغاء التام كما يصغى إليها اليوم؟! نعم؛ كان يصغى إليها في الماضي ولكن برءوس الحراب وأفواه البنادق، وأما اليوم فقد رأينا كيف يصغى إليها بالعقل كمطالب حقة؛ لأن الإنسان بفضل العلم الحديث لم يعد على الغالب يعتبر في الاجتماع كالآلة، ويساق إلى الحتوف كالبهيم بأيدي جبابرة الدنيا وأساطين المال وتعاليم كبار الفلاسفة النظريين أنفسهم الذين كانوا يجوزون الرق في القديم، بل صار أكثر عامة الناس كخاصتهم يفقهون أن الحق بين الناس شرع، وأن الطبقات الواطية - كما يسمونها - ليست واطية بالقدر الذي يظنون، وأن العمل لا يجوز سلبه لمصلحة أفراد معدودين، وأنه فوق المال ويجب أن يكافأ أكثر منه، وأن ما كان يعمل حتى اليوم على سبيل الرحمة يجب أن يعمل على سبيل الحق الواجب لأجل مصلحة الفرد من جهة، وفي سبيل المصلحة العامة من جهة أخرى.
ولا أنكر أن آرائي الاجتماعية، وإن كانت كلها ممكنة ومدلولا عليها بنظريات العلم الطبيعي اليوم وسير العمران نفسه نحوها، فإن فيها ما لا يزال يحيق بتحقيقه صعوبات كثيرة لقلة انتشار المبادئ العمرانية الحديثة بين الناس حتى في أرقى المعمورة؛ لأن القسم الأكثر من البشر لا يزالون في تعاليمهم تحت تأثير القديم، غير أن ذلك ليس سببا كافيا لعدم التصريح بها أو نعدها غريبة، أوليس توجيه النظر إلى الشيء مدرجة للبلوغ إليه بأهون سبيل؟! بل توجيه النظر إليه للسير فيه بالتؤدة والروية، خدمة للاجتماع كثيرا ما تقيه عواقب الثورات العنيفة فلا يفاجئ الاجتماع، وينقض عليه كالصاعقة ويدمره تدميرا أو يرجع به القهقرى ويؤخره قرونا إلى الوراء.
فإذا كان قد جاز في الماضي الوقوف بالعمران لتغلب الجمود على الأفكار كالاعتقاد بثبوت الأنواع، فاليوم وقد ثبت للعلم تحول كل شيء في الطبيعة من صامت وحي، صار هذا الوقوف به جناية كبرى؛ لئلا يعرضه ذلك لثورات مدمرة، أشد هولا من الثورة الفرنساوية نفسها التي هي بالحقيقة أكبر ثورة اجتماعية تاريخية نشأت عن شعور الإنسان بالضواغط، وليس العجب من شبوبها بل العجب من طول مدة اختمارها. ولكن هذا العجب يقل إذا عرفنا أن نظامات الاجتماع في الماضي كانت تجعل الشعوب تحت سلطان الحكام والرؤساء، يستبدون بهم ما شاءوا وشاءت أهواؤهم، فكانوا يشغلونهم بالحروب الطاحنة ليبقوهم في ليل من الجهل دامس، فلا يجدون متسعا من الوقت للرجوع إلى أنفسهم والتفكر بحالتهم التعسة؛ للنهوض منها حتى كانوا يظنونها طبيعية فيهم، وأما اليوم فصرف الإنسان عن نفسه بمثل ذلك لم يعد ممكنا، بل هو اليوم بشعور متزايد باحتياجاته الشديدة، فإن لم ينلها بالتدريج دفعته الضرورة إلى الثورة في طلبها، ولا يدفع هذه الثورة إلا تفهيم سائر طبقات الناس بالتدريج وجوب النظر في هذه الاحتياجات، فثورات العمال اليوم إذا لم ينظر فيها كل مرة بالتروي والحكمة يكون وقعها على الاجتماع شديدا للغاية؛ لأنها أعم من أن تنحصر في وطن أو قوم كالثورة الفرنساوية؛ لأن العمال في الدنيا اليوم متضامنون، فإعداد الأفكار لقبولها قمع لها وبلوغ إلى الحق من طرقه القويمة السليمة.
فهذه هي آرائي الاجتماعية بالاختصار وليس فيها شيء غريب عن العلم، ولا عن سير العمران نفسه الذي شهدناه في العصور ونشهده بأعيننا كل يوم، وهي وإن كانت متفرقة في كتاباتي لكنها واضحة جيدا لمن يقرؤها بتمعن؛ أقول ذلك لأني أخشى جدا حكم الناس علي بمجرد السماع فقط، كأن يقال عني أني غير مؤمن وأني اشتراكي مثلا، وهنا فليسمح لي القارئ أن أقول: إن غير المؤمنين كثيرون والاشتراكيين كذلك، ولكن شتان بين رأي خمير مبني على العلم ورأي فطير مبني على التقليد، وبين منصف حيث يجب الإنصاف ومتحامل في كل حال، بل يلزمه أن يقرأها ويتجرد فيها عن الهوى؛ لئلا تكون أحكامه أحكام تشيع تبعد به عن الصواب، عسى أن لا يتسرع الناس في الحكم على سواهم قبل أن يتدبروا ما ينم عليهم من كلامهم؛ لئلا ينصروا ضلالة ويمنعوا هداية وهم لا يريدون.
فصل في الجنايات والاجتماع
إن للاجتماع أمراضا كما للجسم الحي، وهي كأمراض الجسم الحي إما مستوطنة وتسمى جنايات وجرائم، وإما وافدة وتسمى قلاقل وثورات، وأسبابها كأسبابها إما متمة واصلة وهي في أحوال الأفراد الخاصة، وإما معدة مهيئة وهي في نظامات الاجتماع نفسه كما هو الحال في الجسم الحي، فالجنايات كالأمراض نفسها لا تقع إلا إذا توافر لها هذان العاملان: أحوال خاصة في الأفراد، واستعداد في جسم الاجتماع.
وسياسة الاجتماع كطبابة الجسم الحي: رادعة توجه إلى الجاني كما يداوي الطب المريض، ومانعة أو واقية تمنع أسباب الجناية لوقاية المجتمع منها قبل وقوعها، كما يمنع الطب المرض بمقاومة أسبابه بعلم حفظ الصحة المعروف بعلم الهيجين.
فساسة الاجتماع يقاومون الجنايات بالشرائع المسنونة، وهي كالطب الشافي للأمراض، ويحاولون منعها بالنظامات الموضوعة وهي كالطب المنعي الواقي من الأمراض، وكما أن طبابة الأجسام الشافية والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجسم الحي وطبائع الأمراض التي تفتك به ودرس الوسائل النافعة، كذلك سياسة الاجتماع الرادعة والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجناة ودرس الشرائع والنظامات الموافقة أيضا، وكما أن الطب البشري لم يقل كلمته الأخيرة في كل ذلك، كذلك الطب الاجتماعي لم يقل كلمته الأخيرة أيضا.
غير أنا إذا قابلنا بين الطبين نجد أن الطب البشري تقدم أكثر جدا مما تقدم الطب الاجتماعي، فشفاء الأمراض صار أسهل مما كان في الماضي وصارت طبائعها معروفة أكثر كذلك، وإذا كانت صناعة الطب لم تتقدم كل التقدم المرغوب في شفاء الأمراض حتى الساعة، لكنها تقدمت كثيرا في علم الوقاية منها، فإن علم حفظ الصحة يكاد يكون قد ألم بكليات نواميس الأمراض وكيفية تولدها ووسائل منعها، وقد تمكن من حصر كثير منها وفي بعض البلدان تمكن من منعها أصالة؛ لأن الطب البشري سار مع العلم سيرا حثيثا وجنبا لجنب، وإذا كان لم يتمكن من منعها بتاتا فليس من نقص في علمه، بل من صعوبات أخرى تعترضه متأتية من نظامات الاجتماع نفسها، فالأمراض الوافدة التي كانت تنقض في الماضي على أوروبا وتفتك بمئات الألوف من سكانها في زمن قصير؛ كوافدات الطاعون والجدري الأسود والهواء الأصفر والحمى التيفوئيدية نفسها حتى خانوق الأطفال المعروف بالدفتيريا، قد قلت اليوم جدا وزالت منها في بعض الأماكن طبيعتها الوافدة، فإذا كانت أكثر المدن الكبرى في هذه الجهات بلغت الغاية في النظافة بعد أن كانت مجمعا للقاذورات، وصار السكان فيها أكثر اعتناء من قبل بنظافة مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم وملابسهم وأجسادهم، فالفضل في ذلك للطب الذي عرف كيف يستفيد حالا من العلم، وسوف تخف الأمراض جدا وتقل ويلاتها كلما اصطلحت نظامات الاجتماع، ومكنت الطب من العمل بقواعد علم الصحة كما هي معروفة له اليوم.
بخلاف الطب الاجتماعي فإنه لم يتقدم على نسبة تقدم العلم اليوم، فهو لم يتعرف طبائع الاجتماع وطبائع الجناة جيدا، وشرائعه الشافية ونظاماته الواقية لا تزال قاصرة جدا عن المرغوب، وما ذلك إلا لأن نظره في طبيعة الاجتماع لم يتغير كثيرا عما كان في الماضي، ولم يتيسر له حتى اليوم تطبيق نظاماته وشرائعه على النواميس الطبيعية التي اكتشفها له العلم، والحق يقال: إن هذا التطبيق محفوف بالمصاعب لأسباب كثيرة ناشئة عن غلبة تعاليمه الدينية والأدبية في شرائعه ونظاماته، وتأثيرها في طبائع أفراد المجتمع أنفسهم، فإذا كان الطب قد استفاد كل الفائدة من العلم الطبيعي؛ فلأن موضوعهما واحد، فلم يكن يمكن فصل أحدهما عن الآخر بخلاف سياسة الاجتماع، فهي حتى الآن لا تزال للأسباب المتقدمة باقية في واد والعلم الطبيعي يسير في واد آخر.
ولا يستفاد من ذلك أن الاجتماع لم يستفد من حركة العلم اليوم في سياساته فإن إنكار ذلك مجازفة، فأمراضه الوافدة قلت جدا، فقلت حروبه وانكسرت حدة ثوراته وخفت وطأة قلاقله، ولا شك أن الجرائم والجنايات قد قلت كذلك عما كانت في الماضي البعيد، كل ذلك لسهولة مراسه اليوم أكثر من قبل لاصطلاحه نوعا بفضل ما انتشر عليه من ظل العلم الحديث.
غير أن القلاقل إذا كانت قد خفت وطأتها فهي لم تقل اليوم بل زادت واستوطنت كذلك كقلاقل العمال، وإذا كانت الجنايات قد قلت عما كانت في القديم فهي لم تقل قلة مطلقة، بل ربما زادت كذلك بالنسبة إلى ما كانت عليه في الماضي القريب لزيادة انتشار العلم وزيادة الشعور بالحاجة معه مع بقاء أسبابها؛ لأن الطب الاجتماعي لم ينظر كثيرا في هذه الأسباب وإذا نظر فلم يهتد كثيرا إلى الوسائل الواقية منها أو أنه لم يحسن تطبيقها عليها، وأسبابها إنما هي في نظامات الاجتماع نفسها التي لا تزال حتى الآن بعيدة جدا عن توفير التضامن له بتوفير العمل وتوفير المنفعة المتبادلة.
فالشارع لم ينظر في الجنايات إلا إلى العقاب؛ فكأن الصعوبات التي تعترضه في نظامات الاجتماع صرفته عن تعرف طبائع العمران للبحث في الوسائل الواقية، إلى تعرف طبائع الجناة أنفسهم لتحديد العقوبة، وقد هداه العلم اليوم في ذلك كثيرا وخدعه أكثر؛ لأن الاعتماد في العلم على جهة واحدة مضر جدا، فنظر في الأمر نظرة علمية هي في مصلحة الجاني أكثر منها في مصلحة المجني عليه؛ إذ نظر إلى الجاني كنظره إلى المريض المستحق غالبا للشفقة والحنان بقطع النظر عن تأثير جنايته في الاجتماع، وهو نظر يوافق عليه العلم إذا كان الغرض منه توفير عضو من أعضاء المجتمع لنفع منه لهذا المجتمع، وإلا فالشفقة في الطب كما في الشرائع يجب أن تشمل الأهم وهو الجسم الاجتماعي نفسه، ولو كانت هذه الشفقة في الشرائع اليوم ترمي إلى إصلاح الجاني لحمدنا العمل، والحال ليس كذلك غالبا؛ لأن وسائل إصلاح الجاني لا يعتنى بها كثيرا في الشرائع حتى اليوم، وكل ما تفعله هذه الشرائع لمصلحة الاجتماع هي أن تحبس الجاني وتكف شره عن المجتمع إلى حين، وكثيرا ما يضيف الجاني إلى عيوبه وهو في السجن عيوبا أخرى يكتسبها من مخالطته لسائر الجناة المحبوسين معه في سجن واحد، فلا يخرج من السجن حتى يعود إلى جنايته بجسارة وتفنن لم يكونا له من قبل.
فتخفيف العقوبة على الجاني لم تفد الاجتماع بل ذكر بعضهم أن القتل كان يزيد كلما قل القصاص بالقتل، وليس في الأمر غرابة والدواء على ما تقدم، حتى ولا القتل نفسه يستطيع بالإرهاب أن يقلل القتل عسى أن يستطيع الجاني أن يستغفل نظام الاجتماع وينجو من عقاب مؤجل؛ ولذلك رأى بعضهم أن يشغل الجاني في سجنه حتى يدفع ثمن جنايته فيكتسب عملا نافعا ويعوض على المجني عليه، ويرهب لطول الإقامة حينئذ في السجن، وهو أقرب الآراء إلى العدل مهما قام عليه من الاعتراضات، ويلزم حينئذ أن لا يقبل عن شغله عوضا ولو كان ذا مال، ويشمل التعويض حوادث القتل التي كثيرا ما يذهب فيها التعويض المدني هدرا، فيفقد الإنسان عزيزا له ويفقد معيلا كذلك.
على أن الجاني نفسه مظلوم وظالمه نظام الاجتماع نفسه، سواء عن جهل لقلة انتشار العلم أو عن حاجة لقلة توافر العمل، أو عن مرض لتطرق ذلك إليه بالوراثة المكسوبة هي نفسها من الاجتماع، والشرائع التي تعاقبه كأنها تعاقب به جهلها في تطبيق نظاماتها على حاجة العمران، والتي كثيرا ما يكون الجاني العزوم فيها أنبل جدا من الذي يحرجونه ويسترون جناياتهم بالخبث، فما دامت تعاليم الاجتماع لا تتمشى على قواعد العلم الحديث، فتضع العمران في مقامه الطبيعي وتعتبره جسما حيا كسائر الأحياء وتطلق عليه نواميسها الطبيعية فمن المستحيل أن تهتدي إلى إحكام الروابط بينه، وما دامت نظاماته لا توفر له النفع المتبادل فيصعب جدا ضبطه، ولقد صدق القائل: «إن توافر أسباب الثروة في بلاد لمن أفضل أسباب تقليل الجنايات فيها.» فالناس في كل أمورهم دنيا وآخرة إنما هم يقتتلون على رغيف.
فصل في العلم والتعليم
إذا كانت هذه الآراء العلمية والاجتماعية لا تزال قليلة الشيوع بين الناس، فالسبب كما قلت في ما تقدم هو قلة انتشار العلم الطبيعي رغما عن ارتفاع شأنه كثيرا اليوم لدى خاصة العلماء وعامتهم، والذنب في ذلك على المدارس فأكثرها حتى اليوم لا يزال يعلمنا العلوم العقلية الأدبية كما كانت في عهد أرسطو وابن سينا والعلوم الحيوية كما كانت في عهد لينيوس وكوڨيه، وقل منها ما يعلم مذهب التحول بعد مائة سنة من اكتشافه وخمسين سنة من ثبوته، والغريب أنها اليوم تجري على قواعد هذا المذهب في تعليم العلوم الكيماوية والفلسفية الطبيعية، وقد تختلس شيئا منه تطلقه على علومها العقلية الأدبية من دون أن تدري أنها مدينة له بذلك، فإذا درت كما في العلوم الحيوية دفعها جمودها الذي هو من مميزاتها الأولى إلى النفرة منه والانزواء بين دفتي كتبها البالية، وهو وإن كان يعلم اليوم في بعض المعاهد العلمية الراقية في أوروبا ، ففكرة تعليمه في مدارسنا الشرقية على اختلاف نزعاتها لا تزال أبعد من عنقاء مغرب.
فإذا كان الخوف على الدين هو الذي يمنع المدارس وخاصة المدارس العالية من تعليم مذهب التحول، فليعلموا أولا أن هذا المذهب اليوم ليس نظرا فلسفيا يحتمل الشك بل هو مذهب علمي ثابت أدلته محسوسة لا تقبل النقض، فمهما حاولوا طمسه فإنهم لا يفلحون، ولا بد من أن يحتل المدارس احتلالا دائما في زمن قريب، فليعلموه إذن، وليقفوا فيه عند حد العلم البسيط، كما فعلوا بأكثر المذاهب العلمية الكبرى التي حاربوها أولا بحجة الدين ثم عادوا إليها، ولم يجدوا حينئذ أدنى مشقة في تطبيقها على الدين أو تطبيق الدين عليها؛ نقول ذلك لأنا لا نريد أن يكون هذا الخوف اليوم سببا لحرمان التعليم من فوائد هذا المذهب الجمة لجميع فروعه العلمية والأدبية والتاريخية؛ إذ ما من مذهب حتى الآن ظهر بهذا الاتساع شاملا لجميع معارف الإنسان، ونخص بهذا القول مدارسنا عامة، فلعلها تجعله قاعدة تعليمها الثانوي ولا توصد أبوابها دون أرقى العلوم اليوم.
ويا ليت الجامعة المصرية تكون السابقة إلى ذلك فتجعله أساس تعليمها وهي لا تكون قد أتت بدعة، بل تكون قد حذت بذلك حذو جامعة باريس وجامعة ڨينا اليوم وأنشأت كذلك تعليما جديدا غير موجود في المدارس الشرقية، ذلك أفضل جدا من اقتصارها على المباحث التي تبحثها والتي يمكن لسواها أن يقوم مقامها فيها، بخلاف مباحث هذا المذهب فإن الإحاطة بها على أسلوب علمي لا تتيسر أينما كان، وهي لو فعلت لوجدت من علماء أوروبا اليوم من لو خطب في الموضوع لخلب العقول وملأها بمعلومات تقترن اللذة فيها بالفائدة، ولرأت من الجمهور كذلك إقبالا عظيما جدا على حضور دروسها؛ لأن العقول اليوم متعطشة جدا للعلم الصحيح، ولربت منا أيضا رجالا أكفاء يخلفونهم في تعليمهم باللغة العربية في وقت قريب، ولأدت فوق ذلك كله خدمة كبرى للبلاد تذكر لها فتشكر.
وحتى لا يكون هناك موانع وهمية من العواطف ينبغي أن نقف في تعليمها حينئذ عند حد العلم البسيط ؛ لأن المذهب ككل المذاهب العلمية الكبرى يمكن تجريده بالكلية عن الدين كما تقدم، أقول ذلك نصيحة خالصة لا غاية لي فيها سوى خدمة العلم وخدمة البلاد معها خدمة حقيقية تدفعها في العمران الراقي شوطا بعيدا، بل ألتمس ذلك من الجامعة التماسا لمصلحة الأمة الناهضة اليوم والطالبة مهيعا تسير فيه يكون أهدى لها وأطلق لحركاتها؛ لأنه لم يقم حتى اليوم أصح وأوسع من هذا المذهب؛ ولأني على يقين تام من أنه سيصبح المحور الذي تدور عليه جميع أعمال الإنسان ومعارفه، لا في المستقبل البعيد بل في القريب الأقرب ومن يعش يره.
نظرة في أحوالنا
إن المطلع على أحوالنا منذ أربعين سنة فقط يستعظم الخطى الواسعة التي خطوناها في سبيل الحياة، فقد كان الشرق الأقصى والأدنى في ذلك العهد في حالة سبات لا تفرق كثيرا عن الموت، ولقد نهض الشرق الأقصى نهضة أدهشت العالم بعد أن كان يظن أنه في غفوة لا يعقبها يقظة، فبلغت اليابان في هذه المدة القصيرة مبلغ أرقى الأمم اليوم في علومها، في صناعاتها، في تجارتها، في نظاماتها، في أحكامها، في تأهبها لدفع الطوارئ؛ فملكت ناصية القوتين الهائلتين الأدبية العلمية والوحشية الحربية.
وها هي الصين التي تموج بسكانها كالنمل ناهضة بثورتها الحاضرة بعد سباتها الطويل العميق، نهضة يرجى منها كل خير.
فاليابان لم يصدها حائل لا من أصولها السماوية ولا من عاداتها القومية عن اقتباس أسباب الحضارة ممن سبقها في ذلك من الأمم، فهجرت القديم ولاذت بالجديد جريا على سنن الارتقاء كأنها أدركت أن التمسك بالقديم جمود والجمود تقهقر، فتزيت بأزيائهم وتلقبت بألقابهم واستنسخت نظاماتهم واقتبست صناعاتهم وعلومهم، ونبغت فيها حتى صارت في مقامهم عظمة واقتدارا.
ومقدمات الثورة الصينية تبشر بمستقبل عسى أن لا يكون حظ الصين فيها دون حظ جارتها، وإن كانت الصعوبات التي تعترضها فيها أشد؛ لأن ثورة اليابان قامت بها القوة الحاكمة، وقادت الأمة فيها بالقوى السلمية فهي نشوء سريع لا ثورة بالمعنى المشهور، ولا يكاد يكون لها نظير في تاريخ الانقلابات الاجتماعية ، وأما ثورة الصين فالهيئة الحاكمة كانت ضدها، فهي كسائر الثورات التي مصدرها الأمة، إلا أن ذلك يجعل دعائم الارتقاء فيها إذا قامت أعلى وأرسخ.
ولم يفت الشرق الأدنى نصيب من هذه الحركة إلى النهوض، فكلنا يذكر ثورتنا العثمانية وما جلبت لنا من السرور، وإن كانت مقدماتها لا تبشرنا حتى اليوم بمستقبل زاه لعيوب فيها تجعل نورها فينا سريع الانطفاء، كالنار في الهشيم لعدم اشتراك الأمة فيها اشتراكا محسوسا بسوى الإكثار من التغني في أول الأمر، وهي اليوم تكثر من العويل ولا تتعداه إلى عمل حازم وتخرسها أقل كمامة، فثورتنا حتى الآن عسكرية اقتصر التغيير فيها على صورة الهيئة الحاكمة، فلم تغير شيئا من أخلاقنا ولم تتصل إلى علومنا وصناعاتنا وتجارتنا ولم تتغلب فيها مداركنا على أهوائنا؛ فلا تزال أغراضنا القريبة والبعيدة سدا يمنعنا عن اقتباس كل إصلاح مطلوب، فضلا عن اختلاف أجناسنا وتباين مشاربنا ووجودنا كالقوم العزل في وسط هذا التنازع الشديد المحيق بنا من كل جانب، وقربنا من معالم الحضارة وقيامنا في قلبها كالخرائب والأطلال في وسط الحدائق والقصور، ومع ذلك فالفرق بين ما كنا عليه منذ أربعين سنة وما صرنا إليه اليوم عظيم جدا. •••
ولا ريب أن هذا الفرق العظيم المحسوس يشاهد اليوم بأجلى صورته في مصر وأبنائها، فإن النهضة التي نهضتها مصر في هذه المدة القصيرة، والتي لا يقدرها حق قدرها إلا الذي عرف بنفسه العهدين لمما يحمد جدا؛ حتى إن أبناء اليوم لا يصدقون ما كان عليه في ذلك العهد القريب آباؤهم الأقربون لا أجدادهم الأبعدون، وسهولة ارتقائهم هذه تدل على أن عامل الترقي الموجود فيهم من عهد بعيد والذي طمسته يد المظالم كل تلك القرون الطويلة، عريق فيهم من يوم كان تمدنهم نبراس الأمم.
ولكن إذا كانوا يحمدون من جهة سرعة التحصيل كأكثر الأمم ذات التاريخ المجيد في الحضارة في الماضي، فهل يحق لهم هذا الحمد من جهة أنهم عرفوا كيف يستفيدون من الأحوال السياسية التي طرأت عليهم في الحاضر؟ فالمنصف لا يسعه إلا أن يرميهم في باطن الأمر بالتقصير في مصلحة أنفسهم وهم في الظاهر مجدون في طلبها، فقد قضوا الزمن الطويل من حكم الاحتلال الذي رفع عنهم الضواغط وهم يسمونه نيرا ويسعون للتخلص من ربقته، ولكنهم يسعون إلى ذلك بالطرق التي تزيده فيهم تحكما وتزيدهم في معالم الحضارة الحقيقية تقهقرا، فصرفوا كل هذا الوقت الثمين وهم يدعون إلى الاستقلال، ولكن من غير السبيل الموصل إليه فطلبوه بالتمني، وخدعتهم ثروتهم الطبيعية التي زادت قيمتها زيادة فاحشة؛ نظرا لاصطلاح نظامهم في حكومتهم الجديدة، كأن المال إذا لم يمد لا يفرغ وكأن الاستقلال الاكتفاء بالمصنوع المجلوب حتى صار قسم عظيم من الأرض رهنا الدين، فنهضتهم اليوم إذا كان أثرها باديا جيدا في العلوم الأدبية والأمور النظرية، لكنها في العلوم الحقيقية والأمور العملية لا تزال جرثومة لا ترى إلا بالنظارات المعظمة، فليس لهم يد حتى اليوم لا في العلم الراقي ولا في الصناعات الدقيقة ولا في التجارة الواسعة. والزراعة التي تكاد تكون موردهم الوحيد لا يزالون فيها كما كان آباؤهم في الماضي، ويكادون يكونون غرباء في وسط هذا التمدن الظاهر الذي يحيط بهم كأن البلاد أشبه شيء بمعرض كل معروضاته غريبة، ولعل الحرية التي باغتتهم بها الدولة المحتلة قبل أن تتولى تدريبهم على العمل كانت السبب في كل ذلك؛ فبلغت فيهم ثورة الأفكار أقصاها وبالضد من ذلك ضعفت فيهم ملكة العمل. •••
فنهضة المملكة العثمانية ونهضة مصر اليوم إنما هي نهضة فكرية بحتة لم تقرن حتى الساعة بشيء من عوامل الارتقاء الحقيقية، وأعني بالبلادين شعبيهما وإلا ففي الأمور الإدارية فرق عظيم هو لمصلحة مصر، وما ذلك إلا لانصراف أكثر الأفكار الراقية إلى الاشتغال بمسائل ماضية أو حاضرة بائدة أو بادية، قلما تهم العمران لانحصار دائرة هذه الحركة فيها بمباحث أدبية يجوز أن تكون كمالية ولكن ليست حاجية، وبأمور نظرية يصح أن تكون نتيجة ولكن لا يجوز أن تكون سببا.
انظر إلى القطرين العربيين الراقيين اليوم مصر وسورية، انظر إلى أبنائهما في وطنهم وفي مهجرهم تجد الحركة الفكرية في أشد غليانها ، ولكنها على حال واحد فيهم من الانصباب إلى جهة واحدة، فكلنا اليوم كاتب وكلنا أديب وكلنا شاعر، ولو يقاس الارتقاء في العمران بهذا المقياس لكنا اليوم أرقى الأمم بلا شك، ولا سيما في هذه الأيام التي ثارت فيها العواطف وفاضت القرائح، فلم يبق منا كاتب أو شاعر إلا وطبق السماء بالتغني بمجد الآباء، وما كان لنا من الهمم الشماء في اقتحام الهيجاء من دون أن يدلنا أحد على عيوبنا، ويلفتنا إلى أيدينا الوعثاء وأرجلنا الفدعاء في العمران اليوم. وأما العالم والمهندس والصانع والتاجر منا فأندر من الكبريت الأحمر حتى صار كل مصنوع نحتاج إليه من نعلنا إلى أوتوموبيلنا إلى سلاحنا غريبا ومجلوبا بيد غريبة أيضا، وإذا وجد لنا تجارة فهي أثرية وثروتنا الطبيعية التي نتناولها بسهولة من سطح الأرض لا من باطنها الموصد على هممنا الفاترة مهما عظمت، لا بد أن تفرغ حيال هذا المنصرف حتى تفرغ الأرض نفسها إلى أيد هي أحق من أيدينا باستثمارها. •••
وفتور هممنا ناشئ من تربيتنا البيتية والاجتماعية ونظام أحكامنا، خاصة الذي ينزع من نفوسنا كل رغبة في العمل، والتربية المدرسية التي هي ذات الشأن الأكبر في التأثير على الأخلاق والأجسام والعقول قلما تهتم بإصلاح ذلك فينا؛ فهي لا تزال ناقصة حتى في أرقى المعمورة، ونقصها في مدارسنا أظهر بكثير على تفاوت بينها. وعيباها الأكبران أنها أولا: تعليمنا المجرد قبل المحسوس والموضوع قبل المطبوع، وثانيا: ليس فيها اقتصاد في الزمن فتحمل العقول ما لا طاقة لها به من علوم الاستظهار، التي لا يبقى لها مع كرور الأيام أثر أو يبقى لها أثر لا فائدة به. وتقلل لها من علوم الاستحضار ما لو مرت الحواس عليه مرة، لبقي أثره في الذهن طول العمر، ولجعل الطفل رجلا زمانا طويلا قبل أن يترجل رجال اليوم، فلكي تكون المدارس أجمع للغرض الذي أنشئت لأجله وتنمي في الطالب ملكة العمل خاصة، يجب أن تتحول إلى حقول وحدائق ومعارض ومعامل؛ ليكون العلم موصوفا محسوسا لا موصوفا فقط، وأن تستعين بمخترعات العلم والصناعة كاليسنماتوغراف مثلا لسد ما يتعذر علينا من هذا القبيل، وتقتصر من علوم الأدب على اللازم الضروري لسهولة الفهم وحسن التعبير، وتقلل من العلوم الموضوعة ما أمكن، وكثير منه يمكن الاستغناء عنه بالمرة من دون بخس للعلم بل بفائدة له أكثر؛ إذ تجعل العقل أقل تقيدا وأكثر حرية أيضا. •••
ولولا أن الاعتقاد شائع كثيرا بين الناس حتى اليوم، أن علوم الأدب أرقى العلوم حتى إن الخارج من المدرسة ومعه شيء من هذه البضاعة ليأنف من تعاطي صناعة من الصناعات لما أسهبت هنا في البيان، وما مثل هذا المترفع اليوم إلا مثل أشراف الماضي الذين كانوا يترفعون عن تعلم القراءة والكتابة، ويعهدون بهما إلى الموالي لحقارتهما في اعتبارهم، فإذا كان قد جاز ذلك في الماضي لاعتبار الناس يومئذ صناعة السلب والنهب والقتل والضرب من الصناعات الشريفة، فهل ذلك يجوز اليوم؟
ولقد جاء زمان لا يزال ذيله السابغ مسبلا علينا حتى اليوم كان فيه لعلوم الأدب شأن عظيم، فاستهوت بها أسمى العقول وشغلتها بمباحثها المجردة عن سواها، فتناولت البحث في حقيقة الوجود، وتخرصات الآباء والجدود، وأغلت في العلوم الموضوعة المجهودة، حتى صرفت العقول بها عن المحسوس الموجود والمطبوع المشهود، فوقف الناس عندها زمانا طويلا مكتفين بالماضي عن الحاضر، مقتنعين أن الأوائل ما تركوا شيئا للأواخر، وأنت تعلم معي اليوم أن الأوائل تركوا كثيرا للأواخر وأنهم في غالب الأحيان اشتغلوا بشيء هو لا شيء، تركوا اللباب واشتغلوا بالقشور، تركوا القريب واشتغلوا بالبعيد، تركوا الممكن واشتغلوا بالمستحيل، فبقي العالم يتخبط معهم قرونا وهو يدور في دائرة واحدة معيبة، وجرى مع الأواخر في سنين أشواطا لم يسرها مع الأوائل في ألوفها. وتعلم معي كذلك أن علوم الأواخر التي ارتقى بها العمران هذا الارتقاء السريع هي نقيض علوم أجدادهم على خط مستقيم، فإذا جاز حتى اليوم اعتبار علوم الأدب العالية من الكماليات في العمران الراقي، فما أحوجنا نحن اليوم فيه إلى علوم الحاجيات الضروريات؛ لئلا نبقى كذلك الكسيح الذي يزعق ويقول للذي يعدو أمامه : لو كانت رجلاي سليمتين لما سبقتني! •••
قلت: علوم الأدب وخصصتها بالعالية؛ لأن هذه الكلمة مرنة جدا، فتشتمل على الغث والسمين، وغثها أكثر من سمينها، كما هو الحال في علومنا الكلامية واللغوية وفروعها الكثيرة الفضولية، فيصرف الطالب أثمن سني عمره في المدرسة للوقوف على اختلاف البصريين والكوفيين، والتبحر في سائر العلوم الموضوعة كالمعاني والبيان والبديع والمنطق، وشوارد العروض مما يشغل الذهن ولا يبقى منه فيه على مر الزمان شيء، ألا يمكن التعبير عن الأفكار بلغة سليمة يصرف في تحصيلها أقل ما يمكن من الزمن وتكون صالحة لخدمة العلم؟! وما الفائدة من مقالة يدبجها الكاتب ويملؤها بعويص الكلام ومهمله، يستخرجه بعد العناء الشديد من بطون القواميس ليخرج القارئ في فهمه إلى الرجوع إليها، ما دام في الإمكان التعبير بالألفاظ المألوفة، وما دامت اللغة نفسها على رغم كل محافظ تابعة للإنسان في نشوئه، ومتحولة معه في تحوله تعبر عن أفكاره الجديدة ومعلوماته الجديدة في هذا النشوء وهذا التحول؟! وما الفائدة الكبرى التي يجنيها العمران من قصر اهتمامنا على البحث في ماض بال؛ للتبسط في تاريخ متناقض وأكثره مكذوب والاعتصام به للاختصام على حركات رجل وكلامه، لمعرفة ما كان عليه من الدعارة أو التأدب وفي شعره من التشبيب الخليع أو التبذل الدنيء، فما أشبه تخاصمهما هنا بتخاصم أصحاب «أبو زيد الهلالي» وأصحاب «دياب بن غانم» على حركات كل منهما! فإذا كان لا بد لكل أمة من تاريخ يدل على نشوئها، فالأفضل أن يتوخى من ذلك ما يدل دلالة كلية على حالة الإنسان في هذا النشوء بحسب العصور، فإذا كان لا بد من التبسط شيئا ففي تاريخ العلم فقط عسى أن يعثر في هذا التبسيط على فائدة جديدة للعلم نفسه. •••
ولا أنظر في انتقادي هذا إلى مجتمعنا وحده حيث هذه العلة اليوم في طور «البداءة»، وإن كان لنا من آثارنا الماضية المتراكمة ما يخشى علينا فيها كثيرا من طول «التزيد»؛ فإن هذه العلة لا تزال آفة كبرى من آفات المجتمعات الراقية، ويطلق عليها عندهم اسم «علم آداب القوم» مع الفرق بأن لهذه المجتمعات مع ذلك حسنات أخرى كثيرة ليست لنا، فإذا كان جانب عظيم من هذه الأمم الراقية يشتغل اليوم بالعلم والعمل، فإن الجانب الأعظم منهم لا يزال حتى الآن يصبو إلى الأحلام ويشتغل بغير الهام، ويرصع بالجواهر تصابي عمر الخيام ويضع الشروح الضافية لتفسير قول شكسپير «كان أم ما كان»، بل إن تجار الأدب منهم في رواياتهم التمثيلية وقصصهم الفكاهية، لا يسلمون من هذا الانتقاد الحاد والأنكى ادعاؤهم أنهم يقصدون منها التهذيب والتدريب وهي في أكثرها منافية لذلك؛ فالراقية منها تصور الإنسان على غير حقيقته، وتخلق له صفات فوق طبيعته، فتجعل حياته في الاجتماع شاقة جدا ومحفوفة بالمصاعب، فإما أن تدفعه إلى الانتحار وإما أن تخرج به إلى تعمد الإضرار، وغير الراقية كثيرا ما تستهويه بالغرابة التي فيها وتدفعه في تيارها إلى أبعد ما يمكن، ولا سيما تلك القصص التي تفشت اليوم بين العامة في أوروبا كالوباء وبلغ سيلها الجارف إلينا، والتي تشبه في الغرابة قصص «علي الزئبق» مع الفرق فيها بين لباقة هذه وشناعة تلك، فاستهوت بها قرائح الكتاب في القارات الأربع لما بها من الكسب، فبروا لها أقلامهم وتباروا فيها ونشطهم إقبال الجمهور عليها، فملئوها بكل تفنن فوق التصور في اقتراف الجرائم ومثلوها على مشاهد الصور المتحركة ليرغب فيها أطفالنا؛ حتى صارت مدرسة للجميع تحبب للبعض النسج على منوالها ولو من باب ركوب متن الإعجاز. والغريب أن الحكومات اليوم تتكاتف على صد أوبئة الأمراض ولا تصادر هذه الأوبئة الاجتماعية، التي هي أشد فتكا من تلك، والتي إذا استوطنت لا يعود استئصالها من جسم الاجتماع بالأمر السهل، ولعل عذرهم في ذلك أنها بضاعة أدبية، فيا ويل الاجتماع من هذه اللفظة؛ فكم يجرعونه بها كل يوم من السموم! •••
على أن موضوع الروايات واسع جدا ويمكن لكتابها المبرزين أن يكتبوا روايات يقرنون فيها الجميل الباسط بالمفيد النافع، وليس من الضروري لرواجها أن يخرجوا فيها عن الممكن أو يتنزلوا إلى التهتك لإفساد التصور وترسيخ القبيح، وما أحق كتابنا نحن خاصة في نهضتنا هذه الحديثة بعد أن صدأت أفكارنا وشاخت لغتنا أن يعلمونا كيف نفكر وكيف نتفاهم، وكيف نعبر عما لا غنى لنا عنه وهو واقع تحت نظرنا كل يوم! كأن يدخلوا بنا إلى حانوت التاجر ودكان الصانع، ويجولوا بنا جولة في حقل الزارع، ويسبكوا لنا قصة ظريفة لطيفة ينمقونها كما يشاءون، يأتون في عرضها على ذكر الآلات والأدوات وسائر الإصلاحات التي ترد في عمل كل واحد منهم، والتي لا ذكر لها في قواميسنا على ضخامتها والتي إذا عرضت على كتابنا المبرزين الواقفين على أسرار اللغة من عهد قحطان إلى اليوم أصابهم أمامها العي، يشذبون القواميس من المترادفات التي أصبح كثيرها في حكم الفضول، ويطرحون منها الألفاظ التي شاخت وماتت ولم يعد لها فائدة بشيء ويضعون الألفاظ الجديدة مكانها، يذكرونها كما هي في اصطلاح أصحاب الحرف من دون نحت أو تقعر، كما كان يفعل سلفاؤهم في نقل الألفاظ الجديدة والأسماء الغريبة، والطباعة اليوم تتكفل لهم بضبطها أكثر مما كان يستطيعه النسخ لسلفائهم في الماضي. •••
ولا يؤخذ من هذا القول أني أريد القضاء التام على علوم الأدب، ولا سيما في أحوالنا الخاصة التي تجعل هذه العلوم كل رأسمالنا في نهضتنا الحديثة، وإنما أريد أن أنبه إلى أن قصر قوانا عليها اليوم مضيعة لنا كما كان مضيعة لنا ولسوانا في الماضي، فما علا كعب علوم الكلام في أمة إلا وكان القاضي عليها فلا نجعلها الغاية من حركتنا الفكرية الجديدة، بل نجعلها الواسطة لبلوغ ما هو أرقى وأهم مما ينفعنا في حياتنا العملية الاجتماعية، فلا ننخدع كثيرا بنهضتنا الأدبية فنستنيم عليها أو ننصرف بها إلى إضاعة الوقت، بمباحث لا طائل تحتها نتصل منها إلى جدال لا فائدة منه سوى أن نموه به على أنفسنا أنه هو العلم، بل نحول قوانا المتجمعة والكامنة فينا إلى ما يرفع عماد العمران ويرقيه كما هو اليوم؛ ليكون لنا في ذلك قسط راجح، ولنكون له أعوانا أيضا لا عقبات، وهذا لا يتم لنا بالسياحة في فضاء الخيال والتلفت دائما إلى الماضي، للبحث في مطويات الأدراج والتغني بمجد الآباء والبكاء على الأطلال، بل بالنظر في حاضرنا في الاجتماع ومستقبلنا، وإذا نظرنا إلى ماضينا نظرا كليا فللمقابلة فقط لإظهار الفرق وأسبابه للعيان ليسهل علينا الانتقال إلى الأحسن، لا لإضاعة الوقت والتلهي بمباحث عقيمة لا تهم حاضر الاجتماع ولا مستقبله بشيء، وأقل إضرارها بنا الجمود، والعمران لا يرتقي إن لم تكن وجهته في كل أعماله التزيد ولا يتزيد إلا إذا أكثر اشتغاله بما أمامه وقل تلفته إلى ما وراءه. •••
وكأن هذا المبدأ بي لم يفارقني إلا مرة في حياتي تمنيت فيها شيئا لم أنل سواه من كل متمنياتي، أذكره هنا على سبيل الفكاهة «تماديا» عن هذا الجد الذي يرى أني أكثرت «القزوع» فيه «فيقزمني»،
1
فإني زرت بعلبك سنة 1870 فوقفت مبهوتا من عظمتها ودقة صناعتها، فكتبت على أحد حجارتها البيتين الآتيين:
المرء يسعى أن يسير إلى الأما
م وليس يحمد أن يسير القهقرى
أما أنا لما رأيت بعلبكا
فوددت لو أني أسير إلى الورا
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم أنا أنظر إلى الأمام البعيد وأرجع في سيري إلى الوراء، وأرى أكثر الناس حولي على الضد يسيرون متلفتين كثيرا إلى الوراء ويتقدمون سريعا إلى الأمام، وهو من غريب المفارقات الكثير وقوعها، فلعل الذين تستهويهم الألغاز يأتون بحل هذا المجاز، أو على الأقل يعلمون ما علمته أنا فيتقونه هم: يعلمون أن الطلبة التي تستجاب هي طلبة الشباب. فلا يتمنون في شبابهم ما لا يودونه في شيخوختهم؛ لئلا يعود يخطر على بالهم مثل هذا القول:
فلو أن الحياة تعاد يوما
وكانت نسخة مما يجدد
للذت بجانب المبني فيها
فلا أبني ولو صرحا مشيد
Bog aan la aqoon