وأدت الحرية الشخصية بالسلطة الأبوية في بعض البيوت إلى الفتور، فكان في الماضي الإفراط في هذا المعنى وصار اليوم التفريط، وضعفت سلطة الأب على ابنه وابنته بالنسبة، وضعفت معها الشفقة والرحمة والكرامة إلا قليلا، وأصبح كل أمر يقاس بمقياس الماديات، ولا يسأل الرجل من أين اكتسب ماله إذا اجتمع له مال؛ لأن المعنويات لا شأن لها في نظرهم وإنما الشأن للماديات، وقضت المدنية على من قبلوها أن يجدوا ويسرعوا إن أمكن بقوة البخار والكهرباء والأثير، وكان الناس منذ قرن على تؤدة وتأن وصبر لا نشاهده في أهل هذا الجيل، ولذا رأينا التشاؤم أكثر من التفاؤل في كل بلد، والقناعة والرضى أقل من الشراهة والطمع، وأمسى كل صعلوك يحاول أن يغتني بين عشية وضحاها بأي الطرق التي تفتح أمامه، وكثر حب الظهور بل الجنون فيه، وتبع ذلك البذخ والتفخل والإسراف، بحيث تعذر التوازن بين الدخل والخرج؛ فكان في ذلك خراب بيوت كانت عامرة لولا التقليد المصنع والعادات المستحدثة، وكثرت بذلك السويداء والماليخوليا والخبل وضعف الأعصاب وفقر الدم والسل، كانت الرفاهية في الأيام الماضية مقصورة على قصور الملوك والأمراء فشارك فيها اليوم أهل الطبقات الثانية والثالثة، والرفاهية تتوقف على كثرة بذل ووفرة دخل، وكان للمجتمع في الشرق عادات مستحسنة من جمال الألفة، وحسن العشرة، وصحة العهد والوفاء، وقوة الإيمان ومعرفة الجميل، فعرا هذه الصفات بعض الفتور خصوصا في البيئات التي اقتبست مدنية الغرب بعجرها وبجرها.
هذه جريدة بما لقفناه عن الغرب، ذكرنا فيها الحسنات وأتبعناها بالسيئات، وربما كان فيها بعض النقص، غفلنا عنه بخيانة الذاكرة، أوردنا منها ما أوردناه على سبيل الذكرى، لننصف غيرنا وننتصف منهم.
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
عرضنا في المحاضرات الأربع السالفة لاختلاط الغربيين بالعرب في الأندلس وصقلية، وفي الحروب الصليبية وعهد الاستعمار الغربي، وذكرنا ما أنتجته عقول العرب من العلوم والفنون فأخذته أوروبا عنها، ثم تحدثنا إليكم فيما اقتبسه العرب بعد انحطاطهم من مدنية الغرب الحديثة، والآن ننهي هذه السلسلة ببيان الفرق بين الحضارتين والقائمين بهما، وهو موضوع منتشر الأطراف لا تتسع له عدة محاضرات، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فنقول: لكل مدنية قامت في الأرض روح تتجلى فيه؛ ذلك لأن المدنية ابنة عوامل كثيرة، فالعامل الذي له الشأن الأول في قيامها هو البارز فيها المتسلط عليها، فالمدنيتان اليونانية والرومانية أقرب إلى المدنيات المادية، ومدنية الرومان هي المادة بعينها، وفي المدنية اليونانية شيء من المعنويات من شعر وفلسفة وعلم، والمدنية الهندية روح كلها فنيت فيها المادة في الروح، وجاءت المدنية العربية تنهج طريقا وسطا؛ فأخذت بقدر كبير من المعنويات، ولم تغفل عن الماديات، فكانت في ذلك معتدلة، فما كثر الشقاء في أرضها، ولا أفرطت السعادة، ولعلنا لا نبعد عن الحق كثيرا إذا عرفنا المدنية الغربية الحديثة بأنها مدنية مادية والمعنويات تابعة لها، والمدنية العربية مدنية روحية والماديات تبع لها.
وإذا جئنا نحل المدنية الغربية اليوم، نجدها تحت سلطتين؛ سلطة الممولين خزنة الأموال، وسلطة أرباب القوة من رجال الجندية، وكل ما هناك من حسنات تلك الحضارة من علم وصناعة خادم لتينك السلطتين، وهكذا كانت الحال منذ انبعثت الشعلة الأولى من النهضة في إيطاليا، وتحررت العقول من قيودها، والألسن والقلوب من عقالها، والظاهر أن مدنية الغرب منذ تخلصت من سلطة الدينيين أزهرت وأثمرت، ومدنية العرب منذ ضعف جوهر الدين في نفوس القائمين بها، ووقعت في سلطة الزعماء على الدين تراجعت وتضاءلت؛ أي إن الباباوات لما كانوا المتحكمين بمعظم أهل الغرب كانت المدنية هناك على حالة ابتدائية يصعب أن تسير إلى الأمام، فلما قام الإصلاح الديني ونزلت الكنيسة عن تسلطها على كل شيء، ورأى الناس عاقبة التنازع على الدين بما أصيبوا به من النكبات ظهرت تباشير المدنية ناجية من تلك القيود الثقيلة.
أما في الشرق، فإن المدنية العربية قامت بروح الدين أولا، وكانت سلطة رجال الدين ضئيلة لا تتعدى دائرة معينة؛ لأن الرياسة الروحية مفقودة في الإسلام، خلافا للسلطة النصرانية في القرون الوسطى، فإنها كانت منظمة مرتبة، ولها السلطان كل السلطان على أرواح المؤمنين، تدبرهم في عامة شئون الحياة، وتسيطر على الدقيق والجليل من حركاتهم وسكناتهم. وكأن الكنيسة كانت حاكمة مطلقة والملوك عمالها، ينفذون أمرها ويأتمرون برأيها، فلما ارتخت تلك القوة، خلصت المدنية من المؤثرات التي طالما عاقتها، والأمر عند العرب على خلاف ذلك من بعض النواحي.
ويشهد الناظر في تاريخ الغرب أن الكنيسة بما كان لها من الحول والطول في كل أدوارها، وبما تمتعت به من السلطان على النفوس، تختط لها طريق سلامتها في الأرض والسماء؛ قد خدمت المدنية بعض الشيء على عهد نوابغ من رؤسائها، حتى إذا استمتع الملوك بحرياتهم تناولوا أعمال المدنية فخدموها زمنا؛ فالمدنية انبعثت من الكنيسة أولا، ثم وصلت إلى الملوك، وجاءت الشعوب بعد ذلك تأخذ بطرائقها، فتم للمدنية ما يتوقف عليه إنهاضها، أما في الأقطار التي خفق عليها علم العرب، وأمدوها بروحهم وتعاليمهم، فكانت المدنية يرعاها الرعاة والرعايا معا منذ خلقت، يعمل العلماء فلا ينازعهم عقلاء الملوك، ويحمونهم من اعتداء المتعصبين، ويرعونهم كل الرعاية، ويولونهم صنوف الكرامة، فما عرفت في الإسلام طبقات ولا امتيازات، ولا دعا إلى التسلط على نحو ما دعت الكنيسة قبل عهد الإصلاح، وكان السلطان الأول في الدول العربية للقائمين بالدولة من الملوك والأمراء فقط.
ومن أجمل ما كان في المدنية العربية تجلي روح التسامح فيها مع من كان يدين بغير دين الدولة القائمة، ورأينا المدنية الغربية لا تحتمل إلى عهد قريب طائفة تخالف رأيها؛ فقتلت من بنيها وغيرهم خلائق لا يأخذهم العد في معظم أدوارها، حتى أدخلتهم طوعا أو كرها في دين السواد الأعظم، وما رضي الغربيون حتى بعد عصر النهضة من بلد رفع عنه علم العرب إلا أن يتنصر أهله، على نحو ما فعلوا في الأندلس وصقلية وجزيرة أقريطش وغيرها، وما عهد للعرب مثل هذا الشطط. وإذا أحسنا الظن في تعليل عمل الغرب، نقول إن الغربيين في سيرتهم هذه دلونا على شدة غرامهم بالنظام والتوحيد، فهم لا يرتاحون للشذوذ في قوانين الجماعة، ولا يهنأ لهم بال إلا إذا عاهدهم معاهدوهم على المطلق من الطاعة.
ومن غريب أمر الغرب في تغاليه بالنظام أن الكنيسة قضت على الرهبان والراهبات أن ينذروا العفة لا يتزوجون؛ لينقطعوا إلى ما هم بسبيله من الدرس والعبادة والدعوة إلى دينهم، مع أن النصرانية لم تحرم في أصلها زواج الدينيين، ومضت القرون الثلاثة الأولى عليها ورجال الدين فيها يولدون، ولكن حب النظام دعا إلى أن حرموا مئات الألوف من البشر التناسل، وبالحظر على خدمة الدين تأليف أسرة خرجوا عن الطبيعة الإنسانية، وتغاضوا عما يجر ذلك من الكبائر والمنكرات أحيانا، على أن كلا من البرتستانتية والأرثوذكسية قضت على رعاتها بالزواج وما تخلخل نظامها.
أنكر بعض الشعوبيين من أعداء العرب فضل المدنية العربية على العالم في زمن العنجهيات القومية، أنكروا ذلك لما ضعف سلطان العرب في الأرض، وسخروا مما يقول به المنصفون منهم متى عد ما أورثته العرب للإنسانية، وزعموا أن المدنية الغربية هي المدنية، وما عداها فخطوط غير مرسومة على ما يجب، فهي كعلم جابر: «اقرأ تفرح جرب تحزن»، وإن كان ثمة ما يسمى مدنية فهي مدنية الفراعنة والأشوريين والبابليين واليونانيين والرومانيين؛ ذلك لأن المدنية العربية لم تنشأ فيها تماثيل ولا نصب، ولم تثبت لها كفاءة عظيمة في النقش والتصوير، وهم على شيء من الحق في دعواهم؛ ذلك لأن العرب لم يولعوا كثيرا بالمحسوسات، وليس في حضارتهم من هذه ما يعتد به كثيرا بالقياس مثلا إلى ما خلفه الرومان. وذهب الغرض ببعضهم إلى أن قالوا إن المدنية العربية لم تأت بغير الضرر مع أن الغرب لم يعرف الرومان واليونان أيضا إلا من طريق العرب؛ كلام من يعتز بالقوة القاهرة، ويحكم بالظواهر، ويعميه الهوى الجنسي والنزعات السياسية، فما دام القائل لم يحس المدنية العربية ولم ترها عينه، فهي إذن غير موجودة ولا وجدت! ومن يقول هذا من العبث أن نناقشه لنقنعه.
Bog aan la aqoon