كانت الأندلس العربية البلد الوحيد في الغرب الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة من جور الجورة، فانهالوا عليها من كل فج وكثر فيها سوادهم، ومنهم من انصرف إلى خدمة الدولة أو تعلم العلوم كالطب ونحوه، ومنهم من انتفع بما ربطته حكومة الأندلس مع البلاد المجاورة من الصلات التجارية؛ فكانوا من أول التجار الذين تسافر متاجرهم مع متاجر العرب والبربر وغيرهم على الأساطيل التجارية مقلعة من مالقة والمرية ولشبونة وبرشلونة تحمل إلى الشرق وإلى شمالي إفريقية وجنوبي أوروبا غلات الأندلس، وتأتي إليها بغلات البلاد القاصية، وبعد انقضاء عقود من السنين كان الفضل لبعض علماء اليهود في الأندلس بنقل الحضارة من العربية إلى العبرانية واللاتينية، فحملوا علم ساداتهم بالأمس إلى من لم يلقوا منهم في معظم الأدوار إلا العنت والإرهاق، ورب كتاب ضاع أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية أو العبرانية على نحو ما كان من السبعين كتابا التي نقلها في مدينة طليطلة من العربية إلى اللاتينية جيراردو دي كريمونا في القرن الثاني عشر وهي في الهيئة والنجوم والهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة.
وعدن عرب الأندلس المناجم على اختلاف ضروبها، فكانوا يبعثون بما يستخرجونه من أرضهم ويصنعونه من السلاح في معاملهم، وبالحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إلى إفريقية وسائر بلاد المشرق والمغرب، واشتهرت معامل الورق في شاطبة اشتهار قرطبة بجلودها وسلاحها وحليها، وإشبيلية بحريرها، ومالقة بزجاجها، والمرية بوشيها وديباجها وجوخها، وباجة بنسج كتانها، وسرقسطة بسلاحها، ورية بسجادها، وطليطلة ومرسية بأسلحتها، وكانت أوروبا الغربية تأخذ ورقها من الأندلس ، وأوروبا الشرقية تستبضعه من معامل دمشق وحلب وطبرية وطرابلس من الديار الشامية، وحمل العرب إلى الغرب من جملة الصنائع صناعة السجاد وصناعة السفن؛ فجعلوا في كل فرضة من مواني الأندلس على البحر الرومي وبحر الظلمات دور صناعة تخرج لهم السفن الوافية بالغرض في تلك العصور، فكان الانتفاع من البر والبحر على أتم حالاته، وكانوا يستخرجون من دابة تحتك بحجارة على شط البحر في شنترين وبرا في لون الخز لونه لون الذهب وهو عزيز قليل تنسج منه ثياب فيتلون في اليوم ألوانا، ويحجز عليها ملوك بني أمية فلا تنقل إلا سرا، وتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه، وبلغ من غرام ملوك غرناطة بالعلم أن فرضوا جوائز للمخترعين لينشطوهم ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة، وجازوا بالمال الكثير من يستظهرون كتابا يعينونه لهم في الفن الفلاني. وكما كانت للأندلسيين مجامع علمية تجتمع في أوقات مخصوصة من السنة، كان علماؤهم يؤلفون رسائل يفهمها كل إنسان تكون له عونا على الانتفاع بالأعمال العامة؛ أي دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة فتفيدهم فيما هم بسبيله.
وانتقلت بعض صناعات العرب وأساليبهم إلى فرنسا، ولا سيما في الزراعة وحفر الترع والخلجان ونظام الري، وكانوا أنشئوا الطرق والجسور والفنادق للسياح والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل محلة ومنزل، ورأى الفرنسيس كيف عمر العرب ناربون وبروفنسيا لما استولوا عليهما وكيف نظموا أساليب السقيا فيهما، وأدخلوا أساليب عمرانهم إلى قرقشونة ونيم وأتون وسانس وأفنيون ومرسيليا وأرل وبردو، ومنها ما جعلوه قاعدة لأعمالهم الحربية والبحرية، ووقفوا عند حدود سبتمانيا أقاموا لهم فيها مراكز دائمة وعقدوا عهودا مع أهل البلاد، وكان رجال الكهنوت في تلك الأصقاع يؤثرون حكم العرب على حكم الغزاة من الجرمانيين؛ لأن هؤلاء ما كانوا يتحرجون من الاستيلاء على أملاك الكنائس، وأخذت الصلات العديدة تنعقد بين المسلمين والنصارى، ولما ارتد العرب عن إقليم سبتمانيا سنة 759م احتفظوا هناك بأملاكهم وبيوتهم.
كان اختلاط العرب بالإسبانيين والبرتقاليين والكتلانيين والفرنسيس والبشكنش
Les Basques
اختلاط محارب بمحارب؛ يعرفونهم لأول الأمر بغاراتهم، يأخذ بعضهم من بعض أسرى، فلما طال الزمن رأت تلك الأمم المضعوفة أنه لا مناص لها من أن تتعلم في مدارس الأمة المرهوبة، وهكذا كان، فإن كثيرين من نبهاء الإفرنج رحلوا إلى الأندلس يأخذون عن علمائها العلم ويقتبسون من أنوارهم، ومنهم أو من مشهوريهم البابا سلفستر الثاني (جربرت)، وقد درس الرياضيات والفلك عند علماء العرب في إشبيلية وقرطبة، فكان أعظم علماء عصره في قومه، ولما صعد الكرسي الباباوي سنة 999م كان أول الباباوات الذين وجهوا وجهتهم إلى توحيد قوى الغرب لمقاومة المسلمين في استعمارهم في الشرق والغرب، ومثله كثيرون ممن أخذوا عن العرب وكتبت لهم مكانة بما تلقفوه عنهم بين قومهم.
وذكروا أن شانجه أمير ليون كان يستشير أطباء العرب، وأطباء العرب من الأندلسيين هم الذين نقلوا الطب إلى فرنسا في زمن أنشأ فيه الأندلسيون في كل ناحية من بلادهم المدارس وخزائن الكتب والجامعات العلمية في العواصم وغيرها، فكانت مواطن العلم في الغرب زمنا طويلا، ومنها اليوم سلمنكة عاصمة العلم في إسبانيا، وقلمرية عاصمة العلم في البرتقال، على نحو ما نشهد لعهدنا مدينة ليبسيك في ألمانيا وأكسفورد في انجلترا. وزالت الأمية في الأندلس بما أنشأ الملوك من المدارس، وكان في قرطبة عشرات من الكتاتيب للفقراء فقط، وأصبح الرجال والنساء على السواء يكتبون ويقرءون، بل ربما كان من أبناء الفلاحين من ينثرون وينظمون.
وأخذ الإسبان عن العرب في الأندلس وصقلية معنى الشعر وبعض أوزانه وموضوعاته، ولم يكن للشعر الغربي إلى عهد العرب شاعر إفرنجي يرفع الرأس، ما خلا أغاني هي أشبه بشعر العامة منها بشعر الخاصة، واحتذى الإسبانيون حذو العرب في القصائد التاريخية والمواليا، ونمت رياض الأدب الغنائي فتفشت عدوى الاشتغال بالأدب العربي بين أساقفة النصارى المستعربين، وراحوا يقرضون الشعر بلغة عربية عالية، وكثير من قصائد الشعراء الذين كانوا يجوبون في الولايات «تروبادور وتروفير»
1
هي قصائد عربية، واقتبس دانتي شاعر الطليان كثيرا من أفكار العرب في روايته «المهزلة الإلهية»، وخصوصا عن أبي العلاء المعري، وتأثر الأدب الروائي والشعر الإسباني بالأسلوب العربي، وأخذوا عن العرب أوزان التفاعيل الثماني، والأغاني الإسبانية القديمة منتحلة من دواوين شعراء العرب إلى غير ذلك، ثم إن إسبانيا تأثرت أيضا بالموسيقى العربية، وما زالت الموسيقى الإسبانية في إسبانيا وجميع البلاد التي استولت عليها في سالف الدهر، ولا سيما الأرجنتين والبرازيل، هي الموسيقى العربية، بل سرت هذه الموسيقى إلى البيع الإسبانية، وما كانت ألحانها إلا عربية في القرن الثالث عشر للميلاد. وكذلك يقال في الرقص، فإن الرقص الإسباني إلى اليوم هو بالرقص العربي أشبه، وبإيقاعه وتلاحينه أعلق، وهكذا يقال في كثير من أدوات الموسيقى الإسبانية؛ فإنها أو أكثرها مما اقتبسوه عن العرب، وهؤلاء جاءوا بها من الحجاز وهذه نقلتها عن فارس وعن الروم.
Bog aan la aqoon