Ara Falsafiyya ee Dhibaatada Casriga
آراء فلسفية في أزمة العصر
Noocyada
مختارات من الكتاب الفلسفيين
الفصل الأول
أرنولد توينبي
(1988م-...)
ربما كان أرنولد توينبي المؤرخ المعاصر الوحيد الذي استرعى انتباه العالم بأسره وإعجاب الناس أجمعين. وقد انتهت خدمته أخيرا كأستاذ باحث في التاريخ الدولي بجامعة لندن، وكمدير للدراسات بالمعهد الملكي للشئون الدولية. ويجمع كتابه «دراسة التاريخ» الذي يتألف من عدة مجلدات بين المعرفة التاريخية العميقة النادرة والتصور البعيد المدى الذي يتجه نحو الأساطير ومصطلحات التاريخ. وقد وصف هذا الكتاب ب «أنه بعد كتاب «رأس المال» الذي ألفه كارل ماركس، أكثر المؤلفات في النظريات التاريخية إثارة للتفكير مما كتب في إنجلترا.» ومن المبالغة أن نتوقع لكتاب له ما لهذا الكتاب من أفق تاريخي فسيح أن يصبح شائعا؛ بمعنى أن تقرأه من أوله إلى آخره، وأن تهضمه عامة الناس. بيد أن نموذجا لا بأس به من نظرته الثورية بات مألوفا للقارئ العادي عن طريق المجلات الواسعة الانتشار والملحقات الأسبوعية للصحف اليومية، وعن طريق منصات المحاضرات العامة.
ومبحث توينبي الرئيسي هو أن التاريخ لا يمكن إدراكه إلا بالنظر إلى المدنيات باعتبارها الوحدات الحقيقية للتاريخ، ويستحيل إدراكه بالمعالجة المألوفة التي تقتصر على سيرة شعب من الشعوب. وقد وجد أن إحدى وعشرين مدنية قد قامت في الستة الآلاف سنة الماضية، وأن جميع هذه المدنيات قد انهارت أو فنيت فيما خلا المدنية الغربية (أي المدينة اللاتينية المسيحية، التي انبثقت من الهلينية عندما بلغت صورتها الرومانية)، غير أن هذه المدنية الأخيرة التي بقيت على وجه الزمن قد تعقدت مشكلاتها إلى حد كبير، ولا يستطيع أحد أن يضمن نجاحها في المستقبل. ولكن توينبي - بالرغم من هذا - لا يفتأ يردد إيمانه بنظرية «التحدي ورد الفعل» التي تغمر ميدان الحركة الإنسانية بأسره، وهو يحاول أن يؤكد عامل قدرة الإنسان على الخلق، وينبذ نظرية «قانون القضاء والقدر الصارم»، ويقذف بها في هوة العقائد البالية. وسواء لديه اتخذ هذا القانون صيغة الحتمية التي يفرضها العنصر أو البيئة أو المستوى الاقتصادي، ولو أن القدرات المجهولة للصفة الخلاقة عند الإنسان اهتدت وتحررت بطريقة التطور الديني «الرفيقة» اللينة، لأمكن لحضارة الغرب أن تنقذ نفسها، وبالأخص إذا كرست نفسها ب «المجتمع» الذي هو هدف الحضارات؛ ففي هذا تحول الروح «من الدنيا، ومن المادة، ومن الشيطان، إلى مملكة السماء».
ولد أرنولد توينبي في لندن في عام 1889، وتلقى تعليما كاملا شاملا في الدراسات القديمة بكلية باليول في أكسفورد، وترعرع في جو الأمن السائد حينئذ، ذلك الجو الذي شعر به الناس حقيقة واقعة في مستهل هذا القرن، واستمتع بذلك الوهم اللطيف الذي وصفه توينبي نفسه بقوله: «إن التاريخ قد حدث لغيرنا من الناس.» وكانت الحرب العالمية الأولى هي أولى الكوارث التي هدمت هذا الإحساس البريء المستحب ، كما أن سنوات السلم التي أخذت تتقدم باطراد نحو الحرب العالمية الثانية نهضت دليلا على انحلال المدنية الغربية. ويعتقد توينبي اليوم أنه إذا نشبت حرب عالمية ثالثة فستكون على الأرجح سببا في فناء البشر، ويستخلص من ذلك أنه من واجبنا في هذه الساعة الحرجة أن نقابل هذا التحدي الذي يصوبه نحونا عالم طبيعي قوي موحد بديانة عالمية قوية موحدة.
وإن من يقرأ المقتطفات التالية من مقالات توينبي - سواء اتفق أو اختلف معه في الرأي بجملته أو بتفصيله - سرعان ما يسلم بأن ما كتبه توينبي يحقق المثل الأعلى الذي رسمه لورد آكتن حين قال: «إنه يتميز عن التاريخ المشترك لجميع الشعوب، وليس عبئا على الذاكرة، ولكنه إضاءة للروح.» (1) نظرة مؤرخ
إلى أزمة الحضارة الحديثة «أرنولد توينبي» (1-1) هل نحن خاضعون لقدر محتوم؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟ كان الكتاب في عالمنا الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يحاولون الإجابة عن هذا السؤال لمجرد التدريب على البحث العلمي. إن شدة الذهول التي أصابت أجدادنا من جراء الرفاهية التي اتسمت بها الحضارة في ذلك الحين قد غشت أبصارهم حتى لم يروا أمامهم إلا رأيا عجيبا يجافي الحقيقة، وتوهموا أنهم «ليسوا كغيرهم من الناس»، واعتقدوا أن مجتمعنا الغربي يبرأ من إمكان وقوعه في تلك الأخطاء والنكبات التي أدت إلى انهيار بعض المدنيات الأخرى، التي أصبح تاريخها من بدايته إلى نهايته كتابا مفتوحا. أما بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا الجيل، فقد أصبحت لهذا السؤال القديم على حين غرة دلالة عملية أخرى. وتنبهنا إلى الحقيقة (وإني لأعجب كيف يعمى عنها الإنسان)، وهي أن الرجل الغربي وأعماله ليست أشد حصانة من المدنيات البائدة، مدنيات الأزاتقة والأنكا والسومريين والحيثيين؛ ومن ثم فنحن اليوم نبحث - في شيء من الجزع - في ثنايا الكتب المقدسة عن الماضي لعلنا نلتمس فيها درسا نستطيع الإفادة منه. فهل التاريخ يمدنا بأي نوع من أنواع المعرفة التي تتعلق بمصيرنا؟ وإن كان يمدنا بنوع منها، فما مداه؟
Bog aan la aqoon