أنا من رأيها تماما، نحن نعيش ساعة من الزمن، فلماذا نحمل أنفسنا كل هذه الأعباء؟! علام نتعلم كثيرا إذ نحن موقنون بأنا لن نعلم شيئا؟ نحن نعيش في الكتب أكثر مما ينبغي، وفي الطبيعة دون الكفاية، فنشبه ذلك الأبله بلينوس الأصغر الذي كان يدرس أحد خطباء الإغريق، بينما كان بركان فيزوف يدفن على مرأى منه خمس مدن تحت الرماد. ***
كلما فكرت في الحياة الإنسانية، ازددت يقينا بأنه ينبغي أن نشهد عليها شاهدين، أو نقاضيها إلى قاضيين؛ هما السخرية والشفقة، كما كان المصريون يحاكمون موتاهم إلى الإلهة إيزيس والإلهة نفتيس. السخرية والشفقة ناصحتان أمينتان؛ الأولى تحبب إلينا الحياة بابتسامها، والأخرى تجعلها مقدسة ببكائها، وليست السخرية التي أعنيها قاسية ولا موجعة، كما أنها لا تستهزئ بالحب ولا بالجمال، هي رفيقة سمحة، تهدئ بضحكها ثورة الغضب، وتعلمنا أن نسخر من الأشرار والحمقى الذين نبغضهم لولاها، والبغض ضعف يشيننا. ***
إن تأثيرات النور والهواء الخفية - أعني ألوف الآلام التي تنشأ عن الطبيعة بأسرها - هي جزية تؤديها الخلائق الحساسة التي تلتمس مسراتها في الصور والألوان. ***
في الشعوب المتمدنة بربرية خاصة تزيد عما تخيله البرابرة أجمعين، فإن العلامة الجنائي شر من شر المتوحشين، ومحب الإنسانية الحديث يخترع ضروبا من التعذيب لم تعرفها فارس والصين، كان جلاد الفرس يميت السجناء جوعا، فوجب أن يأتي محب الإنسانية ليتخيل قتلهم بالعزلة، وهذا هو بعينه «الجيش المنفرد» الذي لا تقاس بفظاعته فظاعة قط، لكن المبتلى به لحسن طالعه، يضيع رشده فيخلصه الجنون من الشعور بآلامه.
ويتوسلون إلى تبرير هذا المقت بزعمهم أنه يجب إبعاد المحكوم عليه من آثار السوء التي يحدثها فيه أمثاله، وجعله في حالة لا يستطيع معها اقتراف الموبقات والجرائم، إن الذين يدللون هكذا هم حمقى إلى حد لا يسعنا معه أن نقول إنهم منافقون. ***
حينما يقول امرؤ: إن الحياة حسنة، أو يقول: إنها سيئة، فهو يقول ما لا معنى له البتة، يجب أن نقول: إنها حسنة سيئة معا؛ لأننا نستمد منها، منها وحدها، فكرة الحسن والسيئ، والحقيقة أن الحياة لذيذة كريهة، فتانة مخوفة، حلوة مرة، وأنها كل شيء مثلها مثل الطيلسان في أقصوصة فلوريان؛ أحدهم يراها حمراء، ويراها الآخر زرقاء، وكلاهما يراها كما هي بالفعل؛ لأنها حمراء وزرقاء وفيها كل الألوان، وهذا من شأنه أن يوفق بيننا جميعا، وأن يصلح بين الفلاسفة الذين يمزق بعضهم بعضا، ولكن في فطرتنا أن نريد إكراه سائر الناس على أن يشعروا ويفكروا مثل شعورنا وتفكيرنا، وألا نأذن لجارنا أن يكون فرحا إذا كنا نحن محزونين. ***
إن شرور الناس تأتيهم من أوهامهم وتقاليدهم، كما تدب العناكب والعقارب من ظلمة الأقبية ورطوبة الجنائن، فمن الحسن أن نعمل المكنسة بمثل خبط العشواء في كل هذه الزوايا، ومن الحسن أيضا أن نضرب جدران القبور والجنينة بالمعول حينا بعد حين، فإن هذا من شأنه أن يرهب الهوام، وأن يمهد للتخريبات اللازمة. ***
هذه مدينة مجيدة نبيلة، لكن النبالة ليست موزعة بين سكانها جميعا، بل محصورة في فريق قليل منهم، بيد أن المدينة كلها والأمة كلها إنما تقوم ببعض أفرادها الذين يفكرون تفكيرا أقوى وأصح من تفكير الآخرين، ولا يعد ما بقي شيئا مذكورا، إن ما نسميه روح الأمة لا يتوصل إلى وجدان ذاته إلا في أقليات تدق على الأبصار، وما أقل الأفراد الذين يجرءون على التملص من مخاوف العامة، ويكشفون بأيديهم الحجاب عن وجه الحقيقة! ***
عواقب الحرب لا يحصيها حساب، تلقيت من صديقي الفاضل ويليام هاريسون رسالة ينبئني فيها أن العلم الفرنسي أصبح مزدريا بإنكلترة منذ سنة 1871، وأن العلماء في جامعات أكسفورد كمبريدج ودوبلن يتظاهرون بإغفال «الموجز في علم الآثار » الذي وضعه موريس رينووار، رغم أنه أنفع للطلاب من أي كتاب آخر في موضوعه، ولكنهم لا يريدون أن يدرسوا في مدرسة المغلوبين، زاعمين أنه يجب للوثوق بأقوال أحد العلماء في خواص الفن الأيجي وأصول الخرافة الإغريقية، أن يكون ذلك العالم من أمة تحسن صب المدافع، فأما والمرشال مكماهون قد غلب في «سدان» سنة 1870، والجنرال شانزي أضاع تلك السنة أيضا جيشه في ولاية المين، فهذا صديقنا موريس رينووار تصده أكسفورد سنة 1897 أقبح صد، ولا تعبأ بمؤلفه القيم، هذه نتيجة بطيئة غير مباشرة، ولكن مؤكدة من نتائج الحرب.
كذلك لا سبيل إلى إنكار أن على قائم السيف يتوقف مصير الآداب والفنون. ***
Bog aan la aqoon