قلوب تذوب
داء البكاء
عشر وصايا للشعراء
ربة الشعر
الشاعر والوطن
الشاعر والفيلسوف
الألم الشخصي والقومي
الدموع
دموع الشاعر
ندب وانتداب
Bog aan la aqoon
خمس عشرة وصية أخرى للشعراء
قلوب تذوب
داء البكاء
عشر وصايا للشعراء
ربة الشعر
الشاعر والوطن
الشاعر والفيلسوف
الألم الشخصي والقومي
الدموع
دموع الشاعر
Bog aan la aqoon
ندب وانتداب
خمس عشرة وصية أخرى للشعراء
أنتم الشعراء
أنتم الشعراء
تأليف
أمين الريحاني
قلوب تذوب
في هذه البلاد الشرقية كثير من القلوب اللينة المترهلة، بل القلوب المائعة الذائبة، قلوب تذوب كلما ناح الحمام، قلوب تميع كلما اهتز الورد في الأكمام، قلوب تسيل هياما كلما تلألأت شمس الأحلام - قلوب مائعة ذائبة على الدوام.
قلوب تذوب كلما هبت ريح الصبا، تذوب في الليالي المقمرة، وعند كل ساقية أو غدير تذوب في رابعة النهار لرنة عود أو لأنة من أنات «يا ليل»، قلوب تذوب في ظلال الصفصاف، وتذوب أمام الفونوغراف - قلوب شرقية مائعة على الدوام.
ونحن في زمن الحديد والكهرباء!
Bog aan la aqoon
إن حاملي هذه القلوب لأعجز في المحن والنكبات من فراخ القطا، ولأجبن من صغار الأرانب، وما أسرعنا وهذه قلوبنا إلى الشكوى والأنين، إلى التلهف والتأوه والنواح، ما أسرعنا وما أشد صراخنا في ميدان الندب والنحيب، كأننا في مندب دائم، وكأن الندب مشتق من الانتداب.
من خطبة المؤلف
في مدرسة البنات الأهلية ببيروت
داء البكاء
... إننا والحق يقال أكثر بكاء وأشد انتحابا، من جميع الشعوب، كأننا جبلنا من الدموع والأسى، كأننا كونا من أنفاس النوادب، وجهشات الثكالى ... إنه لمرض يفوق انتشارا كل أمراضنا، وهو أشدها خطرا على سلامة الأمة وعافيتها، بل هو الوباء الأخبث؛ لأنه يفعل بالعقول والقلوب ما لا تفعله أحكام الظلم وشرائع الاستبداد، فتراه يفتك بالسياسيين ورؤساء الدين كما يفتك بالأدباء والتجار والفلاحين، هو وباء الدموع، وباء النحيب والنواح، فإذا بكى شاعرنا في قوافيه بكينا معه، وإذا أن أديبنا في نثره كنا كلنا صدى لأنينه، وإذا تروع فيلسوفنا من هول الزمان المادي وانكسر في جهاده روح الزمان، كنا كلنا متروعين مكسورين ...
وإنك لترى الشبان أغزر دموعا من الرجال، والرجال أشد التياعا من النساء، والنساء أسبق إلى التلهف والتأوه من الشعراء المتيمين. آه، أواه، وا لهفتاه! •••
وما السبب يا ترى في هذا التلاشي المعنوي الروحي؟ ما الذي يحل بقلوبنا؟ ما هي ضربتها؟ قلب شاعر مكسور؟ إن قلوب الشعراء من زجاج وأكثرهم يتمونون منها ما يكفي الحياة الشعرية في كل أدوارها. فإذا انكسر قلب من هذه القلوب، فصرخ صاحبه وصاح، وأن وناح، وأرسل نواحه وأنينه في قوافيه، أيجب علينا أن نصيح وننوح مثله؟ •••
كفكفوا دموعكم. ارفعوا قلوبكم من مستنقعات التخنث، وأعتقوها من العواطف الصبيانية - السرابية. ولا تستسلموا إلى كل ناحب نواح مهما طاب نواحه ونحيبه.
من خطبة للمؤلف
في الجامعة الوطنية بعاليه
Bog aan la aqoon
عشر وصايا للشعراء
(1)
أنا القاموس إلهك، لا إله لك غيري. (2)
أكرم سيبويه ونفطويه والكسائي وإخوانهم أجمعين. (3)
لا تحلف باسم ليلى بالباطل. (4)
لا تمدح بالزور. (5)
لا تكذب على دعد وهند وشقيقاتهما. (6)
لا تبك. (7)
لا تقتل. (8)
لا تسرق. (9)
Bog aan la aqoon
لا تشته قصيدة أخيك أو نياشينه. (10)
وفر من غرش يومك لتطبع ديوانك وتنشره وتعلنه وتجزي المقرظين.
ربة الشعر
ربة الشعر عونك وهداك.
ربة الشعر قبسا من ضياك.
إني أخشى على أبنائك الراسفين بقيود تنكرين، وأخشى على حاملي لوائك الغاوين من عبادة تزدرين. بل أخشى عليك من سخافات النظامين وترهات الغاوين وبلادات المولهين.
أخشى عليك من أيد تحمل المناديل، ومن دموع هي الزنجبيل. وأنت الظافرة بالأكاليل.
أنت الجالسة سعيدة على عرش الخلود، وأنت المحجة وأنت السبيل. •••
ربة الشعر ألهميني الصواب وسددي خطواتي الصعاب ولا تجهميني يوم الحساب.
أسمعيني من أصواتك التي تسحر الإنس، وتسكر الجن، وتملأ الكون غناء وابتهاجا. فإني أذكر أن في رسومك وتماثيلك رمزا للغناء.
Bog aan la aqoon
يمثلك العارفون حاملة القيثارة تنشدين، ولا يمثلونك حاملة المنديل تبكين.
وإن لقيثارتك أوتارا لكل عواطف الحياة، ولكل لهجات المنشدين.
ولكن أبناءك في هذا الشرق العربي فقدوا سلم العواطف، فقلما يذكرون غير واحدة، هي عاطفة الحزن والألم.
وفقدوا سلم اللهجات، فقلما يذكرون غير واحدة، هي لهجة البكاء والنحيب.
وأنت حاملة القيثارة المتعددة الأوتار، تلك القيثارة التي ردد دنته آيات وحيها، وذهب هوغو حواشي سحرها، وكان هوميروس ابنها الأول الأبر، وكان شكسبير رسولها الأكبر.
ربة الشعر ...
قطع صوت علي الكلام فسمعته يقول: ولكنهم في شرقك العربي مسخوا اسمي وشخصي فأسموني شيطانا. وحملوني دنا فارغا طيب الرائحة، ومصباحا دخانه أكثر من نوره، وقالوا للشعراء: اتبعوا شيطانكم. فتبعوه إلى دور الأمراء، وإلى المقابر - مديح ورثاء، رثاء ومديح! وتبعوه إلى حانات فيها دعارة، وليس فيها للشعر منارة. وتبعوه إلى ساحات الوغى يحاربون دواليب الهواء. وإلى طلول خاوية في ظلال شاوية. وإلى غدر المحال تحت سدر الخيال. وتبعوه إلى بحيرات من نور القمر، تسبح فيها عرائس الأحزان، وترقص حولها بنات الجان. وفي من تبعوه من شعراء العرب، وأدركوا، بهدي العبقرية لا بهداه، حواشي الظل لعرشي الأعلى قليلون عرفتهم وفي مقدمتهم المتنبي والمعري والفارض والبهاء زهير.
فقلت: ربة الشعر اعدلي فينا ربة الشعر انصفينا.
فقالت: اسمع وع. إن عندكم لكل وتر من أوتار الوحي شاعرا يفوق جميع الشعراء. عندكم المتنبي في فخامة القول والحماسة، والمعري في حرية الفكر والحكمة، والفارض في العشق السري الصوفي؛ والبهاء زهير في العشق الساذج الطبيعي، وأبو نواس في المجون والتهكم، وأبو العتاهية في الورع والتقوى، والشريف الرضي في شريف الغزل والنسيب، والمجنون في الوله والحزن والنحيب. أما الإفرنج فإنك لتجد كل هؤلاء في شاعر واحد كبير من شعرائهم في غوته مثلا، أو في الشاعر الأوحد شكسبير.
فقلت: وشعراء اليوم، شعراء الوجدان؛ أولئك الذين يتعلمون في المدارس اسمك القديم؛ واسم جبل وحيك، ويرون في الكتب رسمك تحملين القيثارة وهم يحسنون العد فيعدون أوتارها كما يعدون أوزانهم، ولا يسمعون مع ذلك غير واحد أو اثنين منها. فما داؤهم - دام جلالك - وما السبب في بلائهم؟ هل السبب في السمع والبصر، أم هل هو في التربية الشعرية القياسية؟
Bog aan la aqoon
فقالت: إن داءهم الأنانية، وإن بلاءهم في نصف بصيرتهم ونصف سمعهم، أجل إن أكثرهم لذو عين واحدة وأذن واحدة، وإنهم إذا ما نظروا إلي لا يرون غير نصفي الأدنى. ومنهم من لا يرى غير جزء منه، وإذا هم أنصتوا لي فلا يسمعون غير صدى كلماتي العالية. فخير لهم وهذه حالهم أن يناجوا شياطينهم، من أن يطوفوا حول معبدي، ويرددون القوافي القديمة المصدئة في المديح والرثاء، وبعد ذلك يتأوهون وينتحبون. - ربة الشعر، حلمك ربة الشعر، التساهل منك. - ويحك أتسألني التساهل. وهل تريد أن لا أبالي؟ معاذ الله أن أنكر أبنائي، وإن كان فيهم من عجائب المخلوقات، ذوي النصف البصيرة، والأذن الواحدة. معاذ الله أن أنكر عبادي وإن كانوا من أهل الندب والنحيب. ولكني أخشى مثلك على عرشي من دموعهم وأخشى على قيثارتي من أنانيتهم. هم أبنائي ورب الكائنات. ولكني وأنا أمهم، وإن ضلوا السبيل إلي، وربة وحيهم وإن جهلوا في أكثر الأحايين مصادره القدسية - أخشى أن أركب خيالهم، فأحسب نفسي كما يحسبون أنفسهم، محور الكون وركنه الأعظم ...
فقلت: ومن أين يجيئهم هذا الخيال إن لم يكن من وحيك الأسمى؟
فقالت: هو من وحي الشيطان، لا من وحيي، معاذ الله أن يكون في وحيي شيء من الوهم والضلال، معاذ الله أن أضلل أولادي، فأوردهم التهلكة وأحرمهم الخلود. هذا بالرغم عما أقاسي منهم ومن قوافيهم. صدقني يا بني إن أبنائي الصينيين وإخوانهم الجاويين هم اليوم أقرب إلى قلبي وإلى فهمي من إخوانك الناطقين بالضاد المتكبرين المفاخرين، المرددين أصوات الأولين، الطامعين بالإمارات والنياشين.
فقلت: وهل كلهم سواء؟
فقالت: لا، يا بني. ولكن كلهم مزعج. كلهم يزعجون أمهم، ويغيظونها. وماذا يبتغون مني؟ اسمع وع. يصيح الواحد منهم في نظمه قائلا: افتحي لي أبواب وحيك. وهو يظن أن أبواب الوحي المفتوحة لأبنائي في العالم أجمع على الدوام، إنما هي في كتب القريض والدواوين. فيهرول إليها فيفتحها فرحا، ويكد القريحة طالبا جامعا حافظا. وهو يعتقد أني دليله وهداه، أحمل له مصباح الوحي في سراديب الأوزان والقوافي، وفي مثل هذا يتنافس وإخوانه، وعندما يغلق عليهم يلجأون إلى القاموس فأفر منهم هاربة فينادوني ثم ينادوني، وبالدواوين يرموني ليرشوني، وهم دائما يفاخرون بلا خجل ويكابرون، وبعد ذلك يجهشون ويبكون.
فقلت: شأن الأطفال وأمهم الحنون.
فقالت: أخطأت يا بني لست بالأم الحنون، وليس الحب مزيتي الكبرى، لا ورب الكائنات أنا أم ولا كالأمهات، فمن له بصيرتان من أبنائي بصيرة مادية وبصيرة روحية أدخله قلبي، ومن له بصيرة واحدة أدخله معبدي، ومن ليس لهم غير نصف بصيرة أتركهم في ذرا المعبد يلعبون. - ربة الشعر رحماك. - استرحم رب العالمين. - وهل في الوجود كله أبلغ منك رسولا وأبر منك وسيطا لديه تعالى. - نعم هناك العالم.
ولكن العالم لا قلب له أو أن قلبه يابس، وإن علمه فوق ذلك لا يدوم على حال، أما أنت فإنك في وحيك دائمة خالدة؛ قلبا وروحا وعقلا. - وكذلك هو الفيلسوف. - ولكن فينا من يرفعك حتى على الفلاسفة، وقد علمتنا ربة التاريخ أن للفلسفة حدودا وإن اتسعت من زمن إلى زمن، وإن الفلاسفة هم غالبا مثل العلماء ذوو بصيرة واحدة وقلوبهم يابسة، أما الشاعر «ذو البصيرتين»؛ ذاك الذي «تدخلينه قلبك»؛ فهو أقرب المقربين إليه تعالى بل هو في مقدمة الخالدين، وإن في ذلك فخرك وفخر العالمين.
قلت هذا، وبادرت إلى ثوبها أقبل ردنه؛ فمالت بوجهها إلى المشرق وهي تبتسم ابتسامة الرضى، ثم مدت يدها إلى القمر الطالع من وراء ربوة عند قدميها؛ فازداد نوره ضياء فسربلها وخفاها عن ناظري.
الشاعر والوطن
Bog aan la aqoon
ما خطر في بالي يوم ألقيت خطبتي في الجامعة الوطنية بعاليه، تلك الخطبة التي حملت فيها على الأدب الباكي أن سيوقفني بعدئذ في الطريق العامة - طريق الصحف - رهط بل عصابة من الأدباء ولسان حالهم يقول: رأسك، أو كلمة أخرى منك في الموضوع.
ومنهم من لم يكتفوا بالتهديد، فضربوا - ضربات صاردة، وأخرى صائبة - وهم ينذرون بالمزيد.
قالوا: أني أبيت على الناس أن يتألموا، وأني أنكرت وجود الألم في العالم، وأني كفرت بالدموع وجدفت على المقدس منها، أي: دموع الشعراء.
وقالوا: إن عنترة والمتنبي وغيرهما من أبطال المشرفية والقوافي بكوا في شعرهم، ولم أتعرض لدموعهم، وأني ألبست شاعر «الشباب المفقود» إكليلا من الشوك بدل إكليل من الغار.
ومنهم من قال: أني أكبرت الشعر وغاليت في تقديره، فلا الباكي منه ولا الحماسي يؤثر كثيرا في نهضات الشعوب.
ومنهم من أباح انتقاد الشعر وصناعته وحرم علينا انتقاد روح الشاعر، وإن كانت من الأرواح المزنقة.
وجاؤوا فوق ذلك بزين الكلام، فقالوا: أني مشعوذ ومراوغ، و... غفر الله ذنوبنا جميعا.
فما أجمل ما قاله الشاعر الحلبي ميخائيل صقال:
نهوى السلام نصافي الناس نكرمهم
ولا نعادي ولا نهجو المعادينا
Bog aan la aqoon
ومن الأدباء الذين خاضوا هذه المعركة، وقد جرت فيها بدل الدماء الدموع، وكاد الأدب والشعر يغرقان في بحرها، وهما يحاولان إنقاذ الوطن - من أولئك الأدباء من كانت جولاتهم أبعد من جولاتي، وطعناتهم أشد من طعناتي، فلمعت الخناجر وأبرقت السكاكين، فخفت على شعراء البلاد، وأسفت لما أسلفت من عتاد، ووددت قتالا مسرحيا يضحك إذا ما أبكى، ويبكي في بعض ما يضحك، فيعود المتبارزون بين الفصول إلى إخاء في المهنة والوطنية، فيستأنس الناس ويستفيدون في الآن الواحد.
ولكن إخواني المجاهدين المبددين لجحافل البكاء والنحيب؛ أسلفوني من الفضل ما لا يصح عنده العمل بقاعدتي المأثورة: قل كلمتك وامش فقد اهتز في كلا الحالين عقل الأمة المفكر؛ فتحركت نزعات للثقافة راكدة؛ واستيقظت للشعر أرواح مجددة؛ فجاء في ما كتبه الفريقان من الأدب الحي ما يحمدان عليه كل الحمد؛ لولا نعرات شخصية تشينه؛ وأهواء نفسية تضعف الحجة فيه، وجاء خصوصا في كلمات من حملوا على الأدب الباكي البرهان الحي المسر على روح التجدد في الشباب وفي نزعاتهم الأدبية والاجتماعية والوطنية.
على أن الشخصيات تضمحل أمام الغرض الأكبر من الموضوع، فلا أنا ممدوحا ولا أنا مذموما؛ أقدم أو أؤخر في تحقيق ذلك الغرض.
ولا الذين توهموا أنفسهم خصوما لي؛ ممدوحين كانوا أو مذمومين، ممن شاركوا في المناظرة، يقدمون أو يؤخرون في تمحيص الحقائق وإدراك المحجة.
ومن غريب ما ظهر في هذه المناظرة تباين العقليات، ليس فقط في القوة والصحة، بل في الشكل والنوع كذلك، فإن كان في تأييد فكرة المؤلف أو في تسفيهها، وإن كان في الدفاع عن الفيلسوف والوطن، أو عن الشاعر وحقه في البكاء، فالعقلية لم تستتر أو تتقنع، بل كانت جلية صريحة لا مجال للريب فيها.
وهذا ما لا تجده إلا في الأمم المتقسمة المتخاذلة مثل الأمة العربية، فلو كانت هذه المناظرة في ألمانية مثلا أو في فرنسه، لما كنت تجد في اختلاف المتناظرين أثرا لعقلية غير ألمانية، أو غير فرنسيه.
أما عندنا فقد تلمست وأنا أطالع ما كتب شتى العقليات، بل تعثرت بها فهناك العقلية الفرنسية وما تجندت به من أدب هو محض فرنسي، وهناك الإنكليزية وما ظهر فيها من الثقافة الأنكلوسكسونية، وهناك عقلية محض علمية - أميريكية مادية - لا ترى في الشعر كبير خير للأمم، لا في الباكي منه ولا الحماسي، وهناك العقلية اللبنانية التي أبت أن تجرد موضوعا أدبيا اجتماعيا من النعرة السياسية، وكذلك العقلية السورية، والعقلية العربية وهي أبرز ما أستعرض في هذه المناظرة.
لذلك لم ينحصر البحث في الموضوع، بل تجاوزه إلى ما أوحت تلك العقليات، كل إلى صاحبها فجاءت والنزعات تخفي الحقائق في بعض الأحايين أو تشوهها.
أما إذا جردنا تلك المقالات من التشيع الأدبي الشخصي، والتشيع السياسي؛ ونظرنا إلى ثمرات الفكر الصحيح الصافي، وإلى نزعات النفس النزيهة فيتبين أن هناك مزيجا من الآراء الصائبة والمخطئة، ومن النظرات الثاقبة والسطحية يستوجب التصفية، أو التسفية - كيفما مثلته لنفسك، بل هناك من الحقائق المختلطة بشبه الحقائق؛ وبالأغلاط ما يستوجب التمحيص والإيضاح.
إنه لعمل شاق، وإني إكراما لك أيها القارئ العزيز لمنجزه إن شاء الله، فقد طالعت من أجل ذلك كل ما وصلني، وأظنه القسم الأكبر مما كتب في الموضوع، وجئت الآن أقوم بالواجب واجب التمحيص، فأثبت الحقائق واضحة جلية، وأشير إلى ما هو خطأ أو وهم بحسب اعتقادي، ثم أضيف إلى ما سبق مني ما يعيد إلى ذهنك وذهن الأمة، ما كاد يضيع في البحث والمناظرة من لب الموضوع، ومن العرض الوطني الاجتماعي الأكبر في معالجته، وعلى الأخص في هذه الأيام العصيبة؛ أيام الجهاد الوطني والنشأة القومية.
Bog aan la aqoon
الشاعر والفيلسوف
قيل: إن الشاعر والفيلسوف لا يتفقان، فالفيلسوف يزعم أن الشاعر يحبب إلى الناس الخلاعة ويغريهم بها؛ والشاعر يظن أن الفيلسوف يبعدهم من الإدراك الأسمى لحقائق الحياة.
وقيل: إن هذا الخلاف بينهما قديم جدا، أقدم من أفلاطون وهوميروس، فلا الفيلسوف يحترم الشاعر منذ ذاك الزمن حتى اليوم، ولا الشاعر يحترم الفيلسوف.
إن في هذا القول أشياء من الخطأ والصواب، فإذا نظرنا في المسئلة نظرة سطحية وجدنا أن بين الشعراء النفسيين، أي: الشخصيين وبين العلماء والفلاسفة الماديين من تصح فيهم الكلمة أنهم لا يتفقون، ولكن الكثيرين من هؤلاء العلماء والفلاسفة لا يحسنون تقدير الشعر؛ لأن لا ذوق لهم فيه، وقد قال أحدهم: إن الشعر هو نتيجة تضخم في الطحال وإفرازات له غير اعتيادية.
أما الشاعر الشخصي الأناني، ذاك الذي لا يتعدى شعره نفسه؛ وما يرى ويخبر من خلالها مما يتعلق بنفسه، فهو يظن أن روحه التبر الخالص يذيبه وينثره على جناح الخيال، وأن الفيلسوف لا يستطيع أن يرى شيئا منه؛ لأن ليس له غير عقل علمي، قياسه الأوحد رياضي حسابي، فهو لا يرى غير ما يرى بالحس، ولا يدرك غير ما يدرك بالقياس، هذا الفيلسوف وذاك الشاعر لا يتفقان.
أما إذا أمعنا النظر في المسئلة، فيتبين أن بين الشعر الكوني الروحي وبين الفلسفة التي تقرن المادة بالروح صلة متينة؛ ونسبا قديما يمت إلى أفلاطون وهوميروس ومن تقدمهما. والحق يقال: إن في فلسفة أفلاطون شعرا صافيا، وفي شعر هوميروس فلسفة سامية.
1
وإنك لتجد الفلسفة بعيدة الغور والمرمى في شعر غوته الألماني
Goethe
وفي شعر وضزورث
Bog aan la aqoon
Wordsworth
الإنكليزي، ناهيك بشكسبير
Shakespeare
وما أحاط به في شعره ورواياته من طبقات النفس والفكر، ومن آفاق الخيال والتصور، ومن جوامع الأدب والفلسفة.
وما قولك أيها القارئ الأديب بأبي العلاء، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء؟ وما قولك بالفارض، شاعر التصوف والفلسفة الإلهية؟ وهل أذكرك كذلك بقصيدة الفيلسوف ابن سينا في النفس؟
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
إلى أن قال وقد اخترق أسترة المادة:
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
Bog aan la aqoon
إن في بنات خيال الشعراء العبقريين وبنات أفكار الفلاسفة الكبار لفلسفة هي الشعر، وشعرا هو الفلسفة، وقل: هو الشعر الفلسفي في أسمى مظاهره، وهي الفلسفة الشعرية في أجلى وأجمل معانيها.
واعلم، سلمك الله، أن الحقيقة العلمية المجردة هي ناقصة نقص الحقيقة المنحصرة بالشعور، أما الحقيقة الكبرى - الحقيقة السابغة الشاملة الدائمة الثابتة - إنما هي التي تجمع بين الحقيقتين، بين ما يدركه الشاعر بحسه الدقيق، وما يدركه الفيلسوف بعقله المحيط، هي حقيقة غوته في «فوست» “Faust”
هي حقيقة شكسبير في «هملت» “Hamlet”
هي حقيقة وضزورث في «الإكسكرشن» “The Excursion”
هي حقيقة برغسن “Henri Bergson”
في كتابه “L’Evolution Crèatrice”
هي حقيقة المعري في «اللزوميات»، هي حقيقة الغزالي في «إحياء العلوم»، هي حقيقة ابن طفيل في «حي بن يقظان»، هاك القليل من الكثير في هذا الباب.
قال الفيلسوف للشاعر: إني أعلم ما تراه، وقال الشاعر للفيلسوف: إني أرى ما تعلمه، مثل هذا الشاعر وهذا الفيلسوف لا يختلفان، وكثيرا ما يكمل الواحد منهما عمل الآخر، فيدرك الفيلسوف بالعلم والاستقراء ما يفتح للشاعر أبوابا للوحي جديدة ويدرك الشاعر بالحس والتصور ما ينبه الفيلسوف لجادة في البحث مجهولة، ويوسع لديه نطاق الفكر والاكتشاف.
دع الشعر والفلسفة وانظر معي تكملة للبحث في حياة الشاعر والفيلسوف العملية، وفي ما يتوجب عليهما كأبناء وطن واحد، بل كأخوين مفكرين، منزهين عن الأغراض الشخصية، والمآرب النفسية كلها، فهل تظنهما وهذه صفة كليهما، يختلفان في الحقائق الأساسية للحياة سياسية كانت أو اجتماعية؟
خذ هذه الحقيقة الكبرى في حياتنا الانتدابية: المنتدبون متمدنون، والمنتدبون مسيحيون، والمنتدبون مقتدرون، أي: أنهم أصحاب جنود وأساطيل، فالمتمدن يجب أن يكون عادلا، والمسيحي يجب أن يكون وديعا، والمقتدر يجب أن يكون صريحا صادقا.
Bog aan la aqoon
فهل المنتدبون علينا وعلى إخواننا في الأقطار العربية الأخرى عادلون وديعون صريحون صادقون؟
وهل تظن أن الشاعر والفيلسوف يختلفان في الجواب على هذا السؤال؟
خذ الثانية الكبرى من حقائق هذه الانتدابات، المنتدبون مسيحيون، وهم يضربوننا كل يوم على الخد الأيمن ضربات وثنية، ونحن أبناء هذه البلاد مسيحيين كنا أو دروزا أو مسلمين، ندير لهم الخد الأيسر كل يوم.
فمن هو المسيحي الصادق يا ترى؟
وهل من الحكمة أو من العدل أو من الدين بشيء أن نظل من هذا القبيل مسيحيين، وأصحاب الانتداب لا يهمهم من المسيحية غير «أخذ الرداء» والصفع على الخد الأيمن؟
وهل يصلح للجهاد في سبيل الحرية والاستقلال والعزة القومية، من ألف الصفع والسكوت أو الصفع والبكاء، وتعلم أن يقبل اليد التي لا يستطيع أن يكسرها.
هذا سؤال آخر لا أظن أن الشاعر والفيلسوف يختلفان في الجواب عليه.
وإذا كان الجواب واحدا، فهلا يجب أن يكون العمل بموجبه واحدا كذلك؟
وإذا تألم الفيلسوف لهذه الحال المحزنة المخزية، الكائنة بين أصحاب القوة والباطل والمسيحية الكاذبة وبين الضعف والحق والمسيحية الصادقة، أفلا يجب أن يتألم الشاعر، ويتألم - وهو الرقيق الشعور - ضعف آلام الفيلسوف!
هو السؤال الذي يقف بنا عند النقطة الجوهرية الثانية من هذه المناظرة - عند الألم.
Bog aan la aqoon
هوامش
الألم الشخصي والقومي
لا الحياة في حقيقة أحوالها، ولا الحياة في الأدب هي اليوم على ما كانت منذ خمسين سنة ولم تكن واحدة في الأصل وفي الصورة في الواقع وفي الكتب، لا في الغرب ولا في هذا الشرق العربي حتى في ذلك الزمان، فقد كان الأدب ومن ضمنه الشعر أدب تلفيق وتشويق، أدب صناعة وخيال على الإجمال؛ وكانت الحياة بالنسبة إلى حاضر حالها سهلة سلسة بسيطة.
وفي حالها الحاضر تنعكس الآية أو هي تسرع في اتجاهها المفصح بالانعكاس، أجل قد تعقدت الحياة وتعددت فيها أسباب التصنع والتزويق، كما تعددت فيها أسباب الراحة واليذخ، ولكن الصعوبات في ورود مناهلها، وفي حل مشاكلها هي كذلك آخذة بالتعدد والتعقد والاشتداد، أما الأدب ومن ضمنه الشعر في أوروبة، فهو يجرد يوما فيوما من الزيادات والزخرفات الصناعية والمعنوية، ويسير في السبل الجديدة القويمة القصيرة المنصوبة إلى جوانبها أعلام المحتجين - الحقيقة والبساطة.
لا يجوز أن نقول إذن: إن الأدب، إن كان في الماضي أو في الحاضر، يمثل الحياة تمثيلا صادقا في أصولها وفروعها، هو يردد صدى بعض أصواتها، ويمثل تمثيلا حقيقيا بعض مشاهدها ومعارضها، وينقل شيئا من ظلالها وألوانها ولكنه عند الحقائق الكبرى في مآسي الأسرة وفواجع المجتمع، ونكبات السياسة؛ يقف كالاله المكتوف اليدين، المعقود اللسان، وينظر إلى يمينه فيرى أنوارا تكاد تخنقها الظلمات، وينظر إلى يساره فيرى ظلمات تحاول أن تبددها مشاعل متوهجة، كأنها دنت من أواخرها في الاحتراق.
وفي هذه المشاعل مشعال الشاعر، ومشعال الفيلسوف.
وإذا انتقلنا من الموقف العام العالمي، وعدنا كما ينبغي إلى الموقف الخاص الوطني، لا نرى في الصورة الصغيرة كبير تغيير أو تبديل، إن في ألوانها الأساسية أو في ظلالها البارزة، فهي في مجملها قاتمة جاهمة إلا أن الاتجاه المركزي فيها هو أجنبي يبسط نفوذه على ظلالها وأنوارها، وقلما يتأثر بما هناك من عوامل الألم والبؤس والشقاء.
فلا عجب إذا بالغ أحد الأدباء المتناظرين في وصف هذه الحياة حياتنا، فقال: إنها سوداء ملؤها الظلم والعسف والقباحة والعار، حياة تدمي القلوب فنسيل ألما أليما، ثم صاح من أعماق قلبه إن الألم هو الحياة، وأن الألم هو الأدب، وإن الألم هو أصل كل إصلاح في الأدب وفي الحياة.
إن هذا الأديب يتألم حقا لألم قومه، ويريد أن يكون الشاعر في البلاد مرآة بيئته، وصورة مصغرة لأمته فهل هو كذلك؟
لا ريب عندي في أن الشاعر يتألم أكثر من سواه ولا ريب في أن ألم الشاعر هو أصلا شخصي أناني، وهو يظل في أكثر الشعراء النفسيين شخصيا قطب دائرته «أنا»، وهذه ال «أنا» التي لا تتوفق دائما في آمالها وتشوقاتها، تجسم الألم في أصحابها فيرون الحياة كلها جاهمة سوداء، وهم يدللون أنفسهم المتألمة كما تدلل الأم طفلها، ويذهبون في خيالهم مذاهب عجيبة فيتوهمون أن آلام الهيئة الاجتماعية من آلامهم، وأنها لا تزول ما زالوا هم الشعراء بائسين متألمين.
Bog aan la aqoon
واعلم - سلمك الله - أن من يتألمون لألم أمتهم لا يبيعون ضمائرهم، ويسخرون أقلامهم وقوافيهم للأجانب المسيطرين؛ وهم السبب الأكبر في بلاء الأمة وشقائها.
هؤلاء الشعراء يبكون وينوحون إما تقليدا؛ لأن بدويا في قديم الزمان بكى الأطلال والدمن - وإما تمويها؛ لأنهم تعلموا في المدارس أن الشعر من الشعور - فقط - وأن أشد حالات الشعور في الشعر - هي الدموع، أما المخلصون منهم فقلما يندبون غير حظهم، وقلما يتألمون لغير أنفسهم، وإنك إذا زجرتهم أو حاولت أن تنقذهم من تقاليد هم فيها وأوهام يصيحون صيحة المجروح، ويئنون كالمقروح أنات طويلة مزعجة.
هو ذا داء الأنانية بعينه، وليس للمجتمع ولا للدهر يد فيه، إنه من النفس المشغوفة بنفسها وبألمها، إنه من الغرور الذي هو عند الشعراء الأنانيين بعد الشهرة خير تعزية، بل هو سلاحهم على الدهر الغدار الميان، وبرهانهم الأكبر على جور الزمان، وقد قال شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء:
نشكو الزمان وما أتى بجناية
ولو استطاع تكلما لشكانا
وعلى ذكر أبي العلاء أقول: إن الشاعر الذي ترفعه الآلام في سلمها إلى الدرجة العليا يرى الشمس مشرقة فوق الغيوم، ويرى الظلال الخضراء في قلب البوادي المهلكة.
الشاعر الصغير أيها القارئ العزيز يتألم ويبكي، ويدخل على قلبك شيئا من عذوبة قوافيه فتطرب لصناعته، وقلما تأسف على حاله.
والشاعر الكبير يتألم ويصف الألم وصفا يؤلمك، ويهيج فيك الغضب والنقمة، بل يريك من الفواجع الاجتماعية؛ ما يضرم في صدرك نار التمرد، ويشعل فيه نور الرغبة بالعمل بل نور العمل والإصلاح.
وهل في شعرائنا نحن العرب من كان أسوأ حظا، وأشد بؤسا، وأرق شعورا من رهين المحبسين أبي العلاء؟ ومع ذلك فإنك لتنسى ألمه الشخصي عندما تسمع في شعره أنة الألم القومي بل الإنساني.
هو ذا الشاعر الكبير، الشاعر الفيلسوف، الذي يتألم لآلام أمته، وقد كان شعره صورة صادقة لبيئته، فقد انتقد بكلمات من نار وقواف من نور، ما كان في زمانه من المفاسد والمظالم الاجتماعية والسياسية والدينية، وصاح بالظالمين والمرائين صيحات مصقعات، وما فقد مع ذلك النظر الأعلى، ولا تعامى عن الحقيقة الكبرى في الجمال الشعري الصافي، فجاءت في بعض قصائده غاية في الرقة والخيال.
Bog aan la aqoon
وأعمارنا أبيات شعر كأنما
أواخرها للمنشدين قوافي
وما كان الألم ليحجر قلب المعري، أو يذهب بشيء من سمو مبادئه فاسمعه يقول:
إذا ما فعلت الخير فاجعله صافيا
لربك وازجر عن مديحك ألسنا
فكونك في هذه الحياة مصيبة
يعزيك عنها أن تبر وتحسنا
ومن غريب الاتفاق الفكري والاجتماعي أن فيلسوف المعرة وشاعرها كان ناقما مثلي على فريق من الشعراء في زمانه، فندد بأولئك الذين يلهون بتوافه الحياة، ولا يستطيعون أن يخترقوا ستارا واحدا من أسترة الحقيقة فيبذرون قوافيهم بالمديح والاستجداء، وبالتغزل البليد والرثاء، وقد قال، وهو يحمل على أسيادهم، وأولياء نعمتهم، الأمراء والحكام - وكأنه في ما يقول يصف أسياد هذا الزمان:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
Bog aan la aqoon
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
فرقا شعرت بأنها لا تقتني
خيرا وأن شرارها شعراؤها
أريد من شعراء القرن العشرين أن يتمثلوا في هذه الأيام بشاعر القرن الحادي عشر، شاعرنا الأكبر المعري، وأريد منهم أن يستقوا من ينبوع حكمته الصافي، فلا يملأون البلاد ضجا وقرقعة إذا هم أحسنوا مرة إلى المجتمع في نظرهم بإحسانه إليهم، وهل جاء أحد الفلاسفة أو الشعراء بأسمى من هذه الحكمة، وبأبسط وأبلغ من الصورة فيها، وهي من ينبوع من كانت حياته بؤسا وألما على الدوام؟ فهو القائل:
والغيث أهنؤه الذي
يهمي وليس له رعود
وهذا الشاعر الفيلسوف المتألم، الذي عرف الحياة «جاهمة سوادء قبيحة ظالمة ...» لا يعبس دائما ولا يتجهم، فإن له في مزاجه شتى المزايا الطيبة فيجيد ماجنا، كما يجيد ناقما، أو واصفا، أو متأملا مفكرا، وهاكه يمزج الحقيقة بالتهكم واليأس بالأمل:
عرفت سجايا الدهر، أما شروره
فنقد، وأما خيره فوعود
Bog aan la aqoon
فلا يبرهن الموت من ظل راكبا
فإن انحدارا في التراب صعود
لست في هذا المقام ناظرا إلى المعري من جميع نواحيه، وفي شعره كما في شعر كل شاعر على الإطلاق الغث والسمين، إنما أنا مستشهد به وبمحاسنه على أن الألم في كبار الشعراء يخرجهم من المحيط الشخصي المحدود من قيد الأنانية، ويرفع بهم إلى أوج المعرفة والإحساس فيرون ما في الحياة من مواطن الوحي الدنية والقصية، ومن مصادر الشعر في الأغوار وفي الأنجاد، بل يرون الكون كله شعرا إلهيا.
قال «غوته » شاعر الألمان الأكبر: «إن الكون ثوب الله».
وجاء المعري، شاعرنا الأكبر، يبزه بصورة أبلغ وصفا، وأروع حقيقة، وأسمى خيالا، إذ قال:
أرى خيال إزار حمه قدر
ظهرت منه قليلا ثم وريت
هو ذا الخيال في الحقيقة الشعرية، وهو ذا في الاثنين ما يثبت أن هناك شيئا من الشبه بين المعري والفارض، فالمتصوف يجل الله عن الذكر إلا رمزا، وهو لا يجسر أن يراه، إذا فرضنا أن ذلك ممكن، ولم ير إلا الخيال من إزاره، فالكون في نظر الشاعر الألماني هو هذا الإزار، وفي نظر الشاعر العربي هو خيال الإزار، وقد عبر عن مشيئة الله فيه بالقدر، والناس يظهرون من خلال هذا الخيال - يظهرون قليلا في هذه الفانية - ثم يختفون.
لنعد قبل أن نودع المعري إلى موضوعنا فيسعفنا ببعض صور بيئته لنعيد إلى نظر القارئ ما قد يكون نساه في بيئتنا، أوليس من العجب أن نسمع من شاعر القرن الحادي عشر الصوت الذي نود أن نسمعه، من شعراء هذا الزمان.
قال المعري يوبخ الملوك، ويدافع حتى في تلك الأيام - عمن كانوا يدفعون الضرائب.
Bog aan la aqoon
وأرى ملوكا لا تحوط رعية
فعلام تؤخذ جزية ومكوس؟
وقال يندد بالمنافقين والمرائين، وهم لا يزالون كما كانوا في قديم الزمان؛ وإن تعددت أساليبهم، وتغيرت أسماؤهم وحيلهم.
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
يقول لكم: غدوت بلا كساء
وفي حاناتها رهن الكساء
وكأنه نظر بعين الغيب إلى هذه البلاد العربية أو بالحري إلى حاضرها وأصحاب الانتدابات فيها، فقال:
Bog aan la aqoon