وماتت اليوم في الجو الأناشيد!
ولو تدبروا وتفهموا لما لجأوا إلى مثل ذلك النقد العجيب، ولحصروا همهم في دراسة مذهبنا الفني في الشعر، معتمدين على القوة الشعرية في ذاتها لاستهواء المشاعر حتى يؤدي الشعر رسالته، من إعزاز الخير وتقديس الجمال، تأدية حرة قوية مستمدة من صميمه، فلا يكون فيها تابعا لفن آخر ... ونتيجة هذا المذهب تقوية المواهب الشعرية إلى درجة بعيدة، فلا نعود نسمع أن الشعر شعر قبل كل شيء، وأن القائل المتوجس: «إني لأسمع صوتا يقطر منه الدم!» هو شاعر شاعر وإن لم تقع ألفاظه في نسق موسيقي، ولا في سلك منظوم وإن لم يعده قومه شاعرا.
وأكرر أني أعد مذهبي هذا هو وحده التطور الطبيعي لمذهب مطران. ومما يؤسف له أن يتصدى لنقدي وللنقد الأدبي عامة كثيرون ليست لديهم المؤهلات لذلك ولا الموهبة النقدية، وهؤلاء يفسدون بجلبتهم الجو الأدبي ويؤثرون عن طريق الإيحاء النفساني حتى على خاصة النقاد أو على بعضهم أحيانا فيخلطون خلطا في أحكامهم، حتى لا يتورع معظمهم عن الحكم على الأعمال المتزنة بالإسفاف، متناسين أن الأديب الناضج المطاع لا يمكن أن يسف، وإنما تنوع آثاره يوهم الناقد السطحي أن فيها العالي والمتوسط والمنحط، بينما لا تكون إلا صورا مختلفة من الحياة المتنوعة التي يعالجها، فحتم أن تجيء مختلفة البيان والروح والقوة والموسيقى حتى تنسجم وموحياتها وظروفها. ولن يكون النقد لشاعر من الشعراء منصفا - على فرض أهلية الناقد - إلا إذا أخذ جميع آثار الشاعر كوحدة أدبية متماسكة.
وإذا ضربنا صفحا مؤقتا عن الشعراء ونظرنا إلى المصورين أمثال محمد حسن ومحمود سعيد وشعبان زكي، فإننا نجد الأول في تصوير أشخاصه يميل إلى نزعة تصوفية تمثل كنه المرسوم وشخصيته المستترة، بينما يميل الثاني إلى ما سميته بالفن التوكيدي الذي يجعل الصورة كالتمثال المجسم الحي، في حين أن الأخير يحن دائما إلى التعبير التأثري الذي يعطيك في نظرة خاطفة الشمائل البارزة للصورة. ولك ولي أن نختلف على أي من هذه المذاهب أفعل في نفسك وفي نفسي، ولكن ليس لي ولا لك أن نتهم أحدا من هؤلاء الفنانين البارعين بالعجز وأن اختيار هذه الطريقة أو تلك راجع إلى قصور في الأداء بدل رجوعه إلى اختلاف في الذوق الفني، بل الأولى بي وبك أن نتفهم رسالة كل منهم في تقدير واحترام وإن لم تجتذبنا إلا إحداها، فكل منهم أستاذ لمدرسته. وهذه الروح السليمة هي التي ما تزال تنقص نقاد الأدب عندنا لتضع حدا لأحكامهم المدهشة ولشططهم وتهورهم.
يقول أستاذي مطران في تصدير (ديوان الخليل): «قال بعض المتعنتين الجامدين من المتنطسين الناقدين: إن هذا شعر عصري، وهموا بالابتسام، توهم أن من بوارق أسرتهم ما يكون أشد من وقع السهام. فيا هؤلاء، نعم، هذا شعر عصري وفخره أنه عصري وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر. هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها، وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحر وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر ... على أنني أصرح غير هائب أن شعر هذه الطريقة - ولا أعني منظوماتي الضعيفة - هو شعر المستقبل لأنه شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا.»
وقد سمعت من أستاذي مطران في مدى السنين الطويلة التي نعمت فيها بصداقته وأستاذيته الكثير من الشواهد والتفاسير لهذا المذهب الذي تعلقت به نفسي منذ نعومة أظفاري وعملت تدريجيا على التوسع فيه توسع النشوء والارتقاء عن طبع موات، متابعا نضوج سني ونمو ثقافتي وازدياد تجاريبي وتأملاتي، فتطورت لغتي كما تطور العصر الذي نعيش فيه، وتطورت نفسيتي التي أحبت وتعذبت وساحت وجربت، وتطورت تبعا لذلك أخيلتي وتعابيري ومثلي العليا. مثال ذلك تجاوبي والطبيعة، فقد كان ذلك محدودا في ديواني الأول، تقليدي العبارة غالبا، ولكنه لم يكن تقليدي النزعة بل مستمدا من الحياة ذاتها كما في قصيدتي «أنفاس الخزامى» (ص49)، فإني نشأت أحب هذه الأزهار وأحب النحل التي شغفت بها منذ سنة 1910 ولاحظت افتتان النحل بها، ثم تبينت من أستاذي في علم النبات أنها أزهار مصرية صميمة فازداد إعجابي بها. وفي القصيدة المذكورة بعض التطلع إلى المعنويات ولكنها لا تقارن بقصيدتي «حلم الفراشة» (ص77 من ديوان «الينبوع») التي أقول فيها:
تطير إلى الزهر في خفة
لتمتص منها الرحيق الشهي
وما تتمنى سوى زهرة
تبادلها لونها القرمزي
Bog aan la aqoon