159

وبقيت جالسا في صمت وتردد كأن ذهني متوقف، هذا الصديق الذي أضيق أحيانا بسخريته والذي يدهشني بقوة إرادته التي تصل إلى حد الجمود! هذا الصديق العجيب الذي يبدو لي أحيانا كالحجر الصلد مع أني أعرفه إنسانا كامل المروءة كبير القلب واسع العقل، كيف تجتمع كل هذه الأضداد في شخصية واحدة؟ وهذا الحزن الذي يفوح من نظرته ومن إطراقته ومن أنفاسه التي يحاول كتمانها! المسكين ينطوي على نيران تضطرم في أعماقه ولكنه لا ينفس عنها، والتفت إليه وتبادلنا ابتسامة ضئيلة حزينة وأحسست نحوه عطفا شديدا لم أستطع أن أعبر عنه بالألفاظ.

وقلت له: متى؟ أجاب: منذ شهر.

فأشفقت أن أنطق له بكلمة مواساة؛ لأني لم أجد كلمة تعبر عن حقيقة مواساتي، ومددت يدي إليه في صمت، فضغطت على يده وخرجت من البيت لا أدري إلى أين أتجه، هل صديقي هذا إنسان من البشرية الضعيفة؟ أهذا نقص فيه أم هو امتياز؟

وسرت في الطريق حائرا كئيبا، وكانت الحوانيت على الجانبين مزدحمة والشارع يموج بالناس، بعضهم يسرع نحوي ليحييني، وبعضهم يصيح بي بالتحية من بعيد وأنا أتكلف البشاشة والإجابة، وانحدرت في أول طريق على يساري نحو الترعة، وكانت هناك الحانة القذرة التي تعود حمادة أن يجلس فيها، ولكنه لم يكن هناك والخواجة مانولي ما يزال واقفا وراء منضدته العريضة ينظر إلى الخارج نظرة جوفاء، وخطر لي أن أدخل إلى الحانة لأسأل عن حمادة الأصفر ولكني لم أفعل، ولما بلغت جسر الترعة عرجت إلى اليسار حتى وصلت إلى كوبري قلاقة، ثم انحدرت إلى الشارع المؤدي إلى المدينة تاركا قدمي تحملاني حيث تريدان، وعدت إلى منزلي كاسفا حزينا كأني لم آت إلى دمنهور إلا لكي أقطع الطريق هكذا ذاهبا آيبا وأنا حائر حزين.

ولما وصلت إلى منزلي كنت ما أزال أحدث نفسي أحاديث متناقضة، ولقيتني أمي عندما أحست بمقدمي، فبادرتني قائلة: «هل قابلت الباشا؟» فهززت رأسي واتجهت إلى غرفتي، ولكني سمعت صوت منيرة وهي تناديني من المطبخ: أنت مدعو إلى الشاي عندي في الساعة الخامسة تماما، وسيكون ضيف الشرف الآنسة منى.

ولم أدر كيف استطعت أن أمنع نفسي من صيحة الدهشة التي كادت تخرج من صدري، ثم أخذت أسأل نفسي أين تكون هذه الدعوة؟ وفي أي موضع نستقبل منى؟

ودخلت إلى غرفتي وذهني يدور مسرعا، ماذا أفعل إذا أتت منى؟ هل أنزل إلى الباب لأستقبلها؟ وأين تجلس في هذا المنزل المسكين؟ إنها جرأة عجيبة أن تقدم منيرة على هذه الدعوة وغرفة الانتظار لا تزيد على ثلاثة أمتار في أربعة، ولا تطل إلا على منور بنافذة صغيرة.

ونظرت إلى الساعة فوجدتها ما تزال الحادية بعد الظهر، كأن عقاربها لا تتحرك، وقمت لأبحث عن شيء أقرأ فيه ووجدت على مكتبي قصة إنجليزية رخيصة، فجعلت أقرأ فيها لعلي أقطع بها الوقت، ولكن ذلك لم ينفعني بشيء؛ لأن ذهني كان يدور مسرعا، ولما ضقت بالقراءة رميت بالقصة على المكتب وقمت لأستريح، ومع كل ما كان في ذهني من الخواطر والهواجس غلبتني الحاجة إلى النوم، فلم أستيقظ إلا عندما نادتني أمي للغداء وكانت الساعة الثانية والنصف، وتكلفت أن أكون عاديا في مظهري وحديثي على المائدة، بل إني تكلفت شيئا من الخفة والمرح وقلت بعض كلمات مجاملة بالإعجاب بالطعام.

وسألت منيرة: ما هذا الشاي الذي تتكلمين عنه؟

فقالت: عندي يا أفندم، فهل تتنازل؟

Bog aan la aqoon