في طريق عودتنا بالسيارة من المناقشة، طلبت من «ابتهال» أن نبتعد عن هذا الوضع. فلنأخذ إجازة؛ فنحن تقريبا لا ننام، وهي عندها منحة في إسبانيا في شهري سبتمبر وأكتوبر، فنقضي شهر أغسطس هناك، ونفكر في الخطوة التالية. طلبت إجازة من الجامعة، وأعلنا أننا ذاهبان إلى الساحل الشمالي، ولم يعرف أحد بسفرنا غير والدتها وأخيها والأمن. أخذنا الطائرة المتجهة إلى مدريد، في الحادية عشرة والنصف مساء الرابع والعشرين من يوليو. يعتصرني سؤال داخلي: لماذا حدث ذلك؟ كنت غاضبا جدا، ليس من شخص معين «بل من مصر»، غاضبا من الوطن. لقد عشت حلم الوطن وحلم الجامعة؛ فقد بلغت الثانية والخمسين ولم أملك شيئا. أتخيل أن دوري هو أن أعلم الطلبة كيف يفكرون، ولقد أخلصت في عملي، كفني لاسلكي، أو كأستاذ في الجامعة. وسافرت إلى كل مكان في العالم؛ كي أتعلم وأفيد وطني بهذا العلم كرجل من غمار الموالي. شعرت بشعور النبي محمد، في الطائف، حين قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى قريب يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.» أيقظت «ابتهال» وقلت لها: «لو حدث ومت في أي مكان في العالم فادفنيني مكان ما أموت.» وكعادتها تحاول أن تخفف عني، فقالت: «طيب خلاص.»
وعادت بي ذاكرتي إلى مشواري الطويل؛ منذ أن اشتد عزم الحرب العالمية الثانية وأنا أخرج للوجود في العاشر من شهر يوليو سنة ثلاث وأربعين، بقرية قحافة التي تبعد عشر دقائق مشيا عن مدينة طنطا؛ مركز الصوفي الكبير السيد «أحمد البدوي»، وهي عاصمة مديرية الغربية، على ضفاف فرع النيل. لم تصل الكهرباء ولا الماء النقي إلى قريتنا بعد، نسير في شوارعها مستخدمين مصابيح الجاز والكيروسين؛ شوارع لا تصل بك إلى طريق مسدود، دائما مفتوحة الاتجاهين. بيوت من الطوب اللبن إلا القليل كبيت العمدة. الملكيات الزراعية صغيرة لم تكن بها إقطاعيات كبيرة. بيتنا له بابان، تدخل من أحدهما فتمر على الغرفة البحرية، وقاعة الفرن الشتوية، بمصطبتها، فوق الفرن مفروش حصير، ورزونة السقف التي تفتح وتغلق للتحكم في دفئها بالشتاء، حين ننام جميعا بها، ومبني في الحائط «كتبية» ذات رفوف لحفظ الوثائق المهمة وحفظ المصحف الشريف.
أبي «حامد رزق أبو زيد»، في التاسعة والعشرين من العمر، قصير القامة بدين الجسم، يعرف القراءة والكتابة، ينادى عليه بالشيخ حامد. بدأ حياته مزارعا، لكنه أيقن أن المساحة الصغيرة التي يزرعها لا تكفي لإعاشة أسرته، فباع القراريط الصغيرة وفتح دكان البقالة الثانية بالقرية عند ناصية تقابل الشارعين الرئيسيين. حالته الصحية متعبة. أمي «نعيمة بنت الشيخ محمد لبدة»، مقرئ القرآن المشهور في قحافة وأجوارها، لأسرتها مكانة واحترام حاملي كتاب الله، في الحادية والعشرين من العمر، جميلة، تتميز بين أخواتها بنعومة بشرتها، كانت المفضلة عند أبيها، لا تبرح البيت، حتى إنها حينما انتقلت إلى بيت زوجها كانت تحتاج مساعدة لكي تعرف الطريق إلى بيت أبيها في القرية.
تأخرت أسرتي في تسجيل ميلادي، على ما أظن مثل الكثير من مواليد ذاك الزمان؛ خوفا من موت المولود. كان الجدل دائما بين أصحاب أبي الذين يتجمعون حول الدكان عن نتائج الحرب، ورغبة الكثير في انتصار جيوش «المحور»، بقيادة زعيم الألمان الذي دخل في الإسلام «محمد هتلر»؛ للتخلص من احتلال الإنجليز.
أنا الثالث بين الأبناء بعد أخي الذي مات طفلا، وبعد أختي «بدرية» التي تكبرني بثلاث سنوات. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولد أخي «محمد». حفظت بعض قصار السور، وتعلمت الصلاة في البيت وأنا في الخامسة. أرسلني أبي إلى كتاب الشيخ «المنيسي» في بيته. بجوار غرفته توجد غرفة العريف التي بدأت فيها تعلم القراءة والكتابة والحساب. نذهب إلى الكتاب من طلوع الشمس حتى المساء. أمسك بلوح الإردواز وأكتب عليه بالطباشير. لم أكن أشارك الأطفال في ألعابهم التي تتطلب الجري لبدانة جسمي، فكنت أجتهد في التعلم الذي أظهرت كفاءة فيه على الأطفال. كنت أتألم كثيرا من دفع والدي لي أن أتسلق مثل الأولاد أو أجري مثلهم.
أتشوق إلى اليوم الذي أنتقل فيه من غرفة العريف إلى غرفة الشيخ، للبدء في حفظ القرآن. وبسرعة انتقلت وحملت اللوح المعدني، وأمسكت بالفرشاة البوص ودواة الحبر. بدأنا بتعلم جزء «عم»، نتعلم كتابة الآيات على اللوح ويقرؤها علينا الشيخ عدة مرات، ونذهب لحفظها حتى يأتي وقت التسميع. ينظر إلينا الشيخ «المنيسي» فلا يشاهدنا، ولكنه يرانا جيدا، وضعني أمام كرسيه بين رجليه المدكوكتين، وبيده عصاه التي قدت من الجنة؛ فأنت تقرأ على الشيخ «المنيسي»، وحينما تخطئ تأتيك لسعة - كلسعة دبور من عصاه - خفيفة على رأسك؛ فعليك أن تعيد الآية. ولو أخطأت تأتيك لسعة أخرى، فتعيد ثانية، فيصحح لك الخطأ. حينما أعود إلى أمي أشكو أحيانا، فتقول لي: «عصاة الفقي من الجنة.»
كنت دائم التواجد في دكان أبي لأساعده، خاصة مع ازدياد المرض عليه، وكأنني انتقلت إلى عالم الكبار الذين يتجمعون حول أبي أمام الدكان، فيطلبون مني قراءة الجريدة، وأستمع إلى قصصهم، وحكايات أبي التي كان بارعا في قصها علينا بالبيت. «ومع اشتداد المرض ووجوده لفترات طويلة في البيت، نشأت مشاكل دائمة مع أمي بسبب تواجد زبائنها بالبيت؛ إذ بدأت تعمل خياطة.» استطعت إتمام حفظ القرآن في الثامنة، وأختي كريمة لم تكمل عامها الأول؛ فكان الاحتفال بمسجد القرية الكبير. ارتدى الشيخ «المنيسي» أجمل ثيابه، وفي حضور الناس وأمام أبي بدأ يمتحنني، فيذكر الآية وأكمل بعده. كنت سعيدا سعادة غامرة. وعلى الرغم من قلقي إلا أنني اجتزت الامتحان، وقبلت يد شيخي. ولأن أبي لم يكن من مزارعي القرية، فقد كانت هديته للشيخ «المنيسي» جبة وقفطانا وعمة ومبلغا من المال. وأصبحت أمام الجميع الشيخ «نصر». كانت أمي في غامر السعادة وهي توزع الشربات على الجيران، تساعدها أختي «بدرية»، وأخي محمد معها في كل أرجاء البيت. وحلم أبي أن أذهب إلى الأزهر، ودعوات أمي أن أكون مثل الشيخ «محمد عبده»، المفتي الشهير الذي درس في المعهد الأحمدي بطنطا. أصبحت أؤذن للصلاة بالمسجد حتى إن بعض المصلين قدموني للإمامة.
في نفس عام واحد وخمسين، افتتحت أول مدرسة حكومية بالقرية، وكان أبي في حيرة بين حلمه في استكمالي التعليم الأزهري واشتداد المرض عليه، حتى أتى صديقه العامل بمصلحة السكة الحديد وقال له: «يا شيخ حامد، الأزهر حباله طويلة، سكن في مصر ومصاريف، و«سنين»، الأزهريون يتزوجون وينجبون وما زالوا طلبة، إحنا نقدم للأولاد في التعليم الحكومي.» وكان لاشتداد المرض على أبي عامل مهم في قراره. والمدرسة تأخذ الأطفال من سن السادسة، فدخلها أخي محمد ولم يذهب إلى الكتاب. وأنا في الثامنة؛ فلا يحق لي دخولها، ويجب أن أدخل مدرسة خاصة بمصاريف لاستكمال تعليمي.
2
كان تفكير أبي أن يقدم شهادة فقر للتخفيف من مصاريف المدرسة. وبالفعل ذهبنا إلى مدرسة العبيدية الابتدائية بطنطا، وصاحبها وناظرها الأستاذ أسعد القبطي، بشاربه المفتول وطربوشه المحبوك. أجرى لي اختبارا؛ فلما وجد مستواي في القراءة والكتابة جيدين، قرر إعفائي من نصف المصاريف، وألحقني تلميذا بالسنة الثانية. يدرس فيها ولداه، والأستاذ سامي مدرس العلوم الاجتماعية، والأستاذ أنيس، والأستاذ جرجس يدرس الحساب. ويدرس اللغة العربية والدين الشيخ عيسى. أبناء المدينة ملابسهم «شيك» نظيفة، بشرتهم ناعمة بيضاء.
Bog aan la aqoon