أعدت كلية آداب القاهرة مؤتمرا علميا كبيرا عن د. «طه حسين» في ظل مرور مائة عام على ميلاده، وكنت في اللجنة المنظمة للمؤتمر، وقد تعودت على المؤتمرات والتجهيز لها. ولفت نظري دكتورة عضو باللجنة المنظمة للمؤتمر من قسم اللغة الفرنسية، سألها أحد الدكاترة عن الحمام، وآخر عن قلم، فكانت حادة في الرد عليهما. اشتركت في المؤتمر بمحاضرة عن «طه حسين». وبعد إلقائها اقتربت مني هذه الدكتورة، وسألتني إن كان يمكنها أخذ نسخة من المحاضرة، فأعطيتها لها وتعرفت إليها؛ د. «ابتهال يونس»، مدرس حضارة فرنسية وحضارة مقارنة بالكلية. بعد انتهاء المؤتمر أقامت اللجنة المنظمة حفلة عشاء صغير على مركب بالنيل، فكانت فرصة أوسع للتعرف إليها. دخلت علي المكتب في الكلية بعد أن قرأت نص المحاضرة، وكانت لها تعليقات ونقاط كتبتها على الهامش، ودخلنا في نقاش طويل وعميق حول «طه حسين» ودوره في الثقافة المصرية.
ازداد اقترابنا خلال رحلة لمدريد ببداية شهر مارس بجامعة غرناطة للمشاركة في ندوة أخرى عن «طه حسين». أتينا لتناول الغداء، فقالت ابتهال لصديقتها: «المانيو فيه سمك اليوم كمان.» فقلت لها: «هو انتم تشمون السمك عن بعد زي القطط، أمس أيضا قلتما فيه سمك وفعلا طلع سمك، كيف عرفت أنه فيه سمك؟» ضحكت وبلهجة متواضعة قالت: «على الترابيزة سكينة سمك، فهذا معناه أنه هناك سمك.» قلت مباشرة: «سكينة سمك؟هو فيه حاجة اسمها سكينة سمك؟!» شعور جميل بالسعادة والمتعة للقدرة على النقاش والحوار معها في أي شيء.
5
أجرت معي الصفحة الثقافية بجريدة «الأهرام» التي يشرف عليها الأستاذ «سامي خشبة»، في سلسلة حواراتها الأسبوعية تحت عنوان «مفكر مصري جديد»، وأجراه معي الصحفي النابه «محمد حربي»، نشر على أسبوعين يوم واحد وثلاثين من مايو والسادس من يونيو سنة إحدى وتسعين. أنا لست صاحب مشروع فكري بالمعنى المتعارف عليه، أنا باحث أحاول تقديم قراءة علمية للتراث بدراسته في سياقه التاريخي والاجتماعي. وشرحت أن فكرة الوسطية التوفيقية للإسلام هي فكرة نتاج ظروف تاريخية وليست صفة جوهرية للعقل الإسلامي، كما يقول الخطاب الديني المعاصر. ونقدت فكرة الحرية عند المعتزلة كفكرة تاريخية مرتبطة بعصرها؛ فمفهومهم للحرية كان في مواجهة القدر وليس في مواجهة الواقع الاجتماعي، مطورا فكرتي عنهم في رسالة الماجستير؛ فالمعتزلة كانوا يمثلون لي إطارا مرجعيا خلال كتابة مفهوم النص. اتصلت بي د. ابتهال تعلق على حواري في «الأهرام»، وقالت: «أنا فاهمة يا دكتور نصر إن محمد حربي يقول: حوار مع مفكر مصري جديد. مفكر عظيم يا سيدي، لكن يقول مفكر شاب، دي مبالغة لا تقبل.» قالتها بطريقة جعلتنا ننخرط في الضحك.
ذهبت مع «هدى وصفي وجابر عصفور» لزيارة الأب متى المسكين في خلوته، بدير الأنبا مقار على الساحل الشمالي، في حرارة الصيف. كنت مشغوفا للقائه ومعرفة آرائه خصوصا منهجه في التأويل والمدخل الطويل لشرح وتفسير إنجيل «يوحنا» الذي كتبه. تشعب الحوار معه إلى تجربته الروحية من الصيدلة إلى الرهبنة سنة ثمان وأربعين، مرورا بآليات الشرح والتفسير وتأويل الرموز الدينية في الكتب المقدسة، ومشاكله مع «البابا شنودة» في نهاية عصر «السادات»، والحصار الذي مورس ضده، وتجربته في زراعة الصحراء واستصلاح أكثر من ألفي فدان في دير أنبا مقار بوادي النطرون والساحل الشمالي. والرجل محاور من الطراز الأول يجيد الاستماع والإنصات والتعبير عن نفسه بهدوء وثقة وتواضع العلماء وثقة الواصلين وهدوء أهل اليقين. نشرنا جزءا من هذا الحوار في العدد الثاني عشر من مجلة «ألف» عام اثنين وتسعين، بما يتوافق مع موضوع ملف المجلة. وقمت بجمع أبحاثي التي نشرت متفرقة خلال فترة الثمانينيات لتخرج في كتاب تنشره الثقافة الجماهيرية في طبعة شعبية بجنيه واحد، عن سلسلة كتابات نقدية، عدد أغسطس واحد وتسعين، تحت عنوان «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».
ساءت الأوضاع في الجامعة، يا لبؤس الحياة الأكاديمية والصراعات، لدرجة صعوبة تسجيل رسالة «علي مبروك» للدكتوراه تحت إشراف «حسن حنفي» في قسم الفلسفة لعدة دورات، وقال «جابر عصفور»: «لو قسم الفلسفة لا يريد تسجيلها، فلنسجلها نحن في قسم عربي.» التغيرات التي أدخلتها الدولة على الجامعة بوضع نظام الفصلين الدراسيين «الترم» بقرار إداري، دون أن ترتب المؤسسة الجامعية لذلك، فأصبح الأستاذ يقوم بوضع امتحانين وتصحيحهما؛ مما أخذ من وقته وجهده، بل وأدخلت نظام الانتساب الموجه بمصروفات ، فتضاعفت أعداد الطلبة. قبل قسم اللغة العربية ستمائة طالب لقسم يسع مائة، وزادت لتصل لألف، فأصبحت ألقي محاضرة لطلبة الانتظام، وأعيدها لطلبة الانتساب. ولأنني لا ألقي محاضرة مكتوبة فالتفاعل مع الطلبة يضيف إلى المحاضرة، فأصبح الطلبة يحضرون كل محاضرة؛ مما ضاعف الأعداد التي لم تجد مكانا لها لتجلس. في ظل هذا ألغيت مادة البحث، لكني كنت أصر عليها، وكنت سعيدا أن يشترك سبعة عشر طالبا بأبحاث من ضمن ألف. هذا الوضع استنزف الأساتذة؛ مما أدى إلى نوع من الغضب، فهدد الأساتذة بالإضراب، فحذفت الدولة كل الزيادات من رواتب الأساتذة، وقررت إدارة الجامعة تجديد المكتبة، ولم تبدأ أعمال البناء إلا أثناء العام الدراسي وكأننا في ورشة. زد على ذلك الكتاب المقرر، وتحديد حجم الكتاب وعدد الساعات. والطامة في دعم الكتاب الجامعي، طالبت وطالب غيري أن يكون الدعم بوجود نسخ من الكتاب في مكتبة الجامعة، بدلا من دعم كل طالب ببعض الجنيهات.
لقد تحول حلم الجامعة الذي سعيت إليه في الستينيات إلى كابوس. وعلى الرغم من ذلك كنت متحمسا للعمل والكتابة والمشاركة. انفعلت على ابن أختي الذي عاد من السعودية، وفي أول يوم له داخل المدرسة في مصر رفض الجلوس بجوار طالب لأنه مسيحي. وكل ما تعلمه هناك أن المسيحي كافر. قلت له: «لماذا عدت إذن؟ لماذا لا تعود للعيش هناك؟» لقد تم تجريف المجتمع من العقل، ومن تدينه الذي نشأنا عليه، وعلى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. دخل المجتمع في حالة غيبوبة، ولا سبيل للخلاص إلا بالحرية على كل الأصعدة، من حرية العقل والتفكير مرورا بالحريات الشخصية والسياسية.
كتبت مقالا نشر بمجلة «العربي» الكويتية في أكتوبر واحد وتسعين، كعرض نقدي لكتاب د. «زكي نجيب محمود» (1905-1993م) بعنوان «حصاد السنين وأمثلة التنوير المكبوتة»، السؤال الذي يشغلني: ما الذي جعل حصاد التنوير فقيرا إلى هذا الحد الذي وصل إليه واقعنا؟ أبحث عن الأسئلة المضمرة والمكبوتة؛ الأسئلة المقهورة إلى حد التحريم. أنقد الخطاب بهدف تجاوزه لتأسيس خطاب تنويري لا يتجاهل هذه الأسئلة، نازعا قناع التحريم، مسلطا عليها ضوء العقل. خطاب التنوير أسير اللحظة التاريخية التي ولد في رحمها في القرن التاسع عشر، محاصر بين تناقضاته مع بعض أطروحات نموذجه الغربي وهجومه وبين نقيضه السلفي الذي يرى في كل ما يأتي من أوروبا قضاء على الذات وانتهاكا للأصالة، لا يستثني إلا الناتج التكنولوجي الميسر لشئون الحياة اليومية. «زكي نجيب محمود» يدرك أن أزمة العقل هي المسئولة عن عثرات التنوير في بلادنا؛ فخطاب التنوير شديد الجرأة في نقد الواقع وفي نقد تاريخنا الثقافي والفكري والأدبي، لكنه يقترب على استحياء من تراث فكرنا الديني. وعجز خطاب التنوير أن يحدث وعيا علميا حقيقيا بالتراث خصوصا التراث الديني، فلجأ إلى موقف تبريري؛ لأنه وقع بين سندان الخطاب السلفي النقيض ومطرقة الخطاب الاستشراقي، فأصبح الدفاع عن التراث الديني لا نقده أو تحقيق وعي علمي بدلالته إحدى مهامه بوضعه في دائرة الوجدان.
سعى خطاب التنوير إلى التلفيق بين الأصالة والمعاصرة؛ مما جعله يبحث دائما عن حلول وسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي. خطاب «زكي نجيب محمود» مهتم بقضية المنهج الفكري ووضوح اللغة والمصطلحات، ونظرته ديناميكية للماضي والتراث، ففرق بين المعقول واللامعقول وانحاز للمعقول؛ مما مهد الأرض للوصول إلى تاريخية التراث الديني؛ التاريخية التي تنزع عنه القداسة. ونادى بوضوح الأفكار الذي جعلنا ننتقل من تحليل الفكر إلى تحليل الخطاب؛ فالإنسان وحدة واحدة.
علماء الدين الحكوميون، في نقدهم لشباب الجماعات الدينية، يتحججون بألا يتحدث في الدين من لم يتخصص فيه، كما لا يتحدث في الطب غير طبيب. وعلى الجانب الآخر يتطوعون بإصدار الأحكام في كل شيء، فكتبت مقالا نشر في مجلة «أدب ونقد»، عدد نوفمبر واحد وتسعين، بعنوان «إعطاء العيش لخبازه أو العودة لمحاكم التفتيش»؛ فاختصاص رجل الدين في شئون العقيدة لا يسمح له أن يزج بنفسه فيما لا يحسن، ويقف عند حدود الرأي ولا يتجاوز ذلك إلى إصدار حكم؛ لأن الناس تتوهم أن ما يصدر عنه من أحكام هي أحكام دينية لا تقبل النقاش ولا المراجعة.
Bog aan la aqoon