Truth and Method «الحقيقة والمنهج»، الذي أقام عملية الفهم على أساس جدلي، ونقد الهرمنيوطيقا منذ شليرماخر مرورا ب «ديلثي»، وركز على عملية الفهم ذاتها؛ فالتاريخ ليس وجودا مستقلا في الماضي عن وعينا الراهن، وحاضرنا ليس معزولا عن تأثير التقاليد التي انتقلت إلينا عبر التاريخ؛ فالوجود الإنساني تاريخي ومعاصر في نفس الوقت؛ فالتاريخية تراكم لخبرة الوجود في الزمن. واللغة لا تشير إلى الأشياء، بل الأشياء تفصح عن نفسها من خلال اللغة. وقد أقام تأويليته متأثرا بجدلية «هيجل» على أساس جدلي مثالي، لكني أختلف معه بأن «الوجود الإنساني مشروط بلحظة تاريخية معينة، وبإطار اجتماعي يحدد شروط هذا الوجود وآفاقه؛ فالذاتي والموضوعي في حالة علاقة جدلية محكومة بالشروط الاجتماعية المادية والتاريخية التي تتم فيها المعرفة». وتعد إقامة الهرمنيوطيقا عند «جادامر» على أساس جدلي إضافة حقيقية؛ ولكنها تحتاج لتأسيس الجدل على أساس مادي.
وكتابات الإيطالي «بيتي» (1306ه/1890م-1386ه/1968م)، والفرنسي «بول ريكور» (1329ه/1913م-1424ه/2005م)، والأمريكي «هيرش» المولود في 1345ه/1928م، الذين يحاولون إقامة نظرية موضوعية في التفسير؛ وذلك بإقامتها على منهج موضوعي صلب، لكنها لم تعد عندهم فلسفة، بل علم تفسير النصوص، أو نظرية التفسير. «بول ريكور» ركز اهتمامه الأساسي على تفسير الرموز، وفرق بين طريقتين في التعامل مع هذه الرموز؛ الأولى هي اعتبار الرمز نافذة نطل منها على عالم من المعنى، والثانية التي يمثلها «فرويد وماركس ونيتشه» بالتعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة يجب ألا نثق فيها، بل نبحث عن المعنى المختبئ وراءها. ويرفض الفهم البنيوي للغة على أنها نظام مغلق من العلاقات لا يدل على شيء خارجه. وهناك فرق بين اللغة والكلام؛ فاللغة تمثل نظام الثبات، والمتكلم يختار من الإشارات اللغوية واحدة دون الأخرى، ويقيم بين الإشارات علاقات دون علاقات، من هنا يكون الكلام مصدر نظام التغير. والنص المكتوب يشير إلى كاتبه، إلا أن له استقلالية في المعنى. وتصبح مهمة المفسر هي النفاذ إلى عالم النص وحل مستويات المعنى الكامن فيه؛ ظاهرا وباطنا، حرفيا ومجازيا، مباشرا وغير مباشر. لكن «ريكور» أغفل علاقة المفسر بالنص؛ نتيجة لرد فعله للبنيوية (للبنائية).
فرق «هيرش» بين المعنى والمغزى؛ فمعنى النص شبه ثابت يمكن الوصول إليه من خلال تحليل النص، أما المغزى فمتغير، يقوم على العلاقة بين النص والقارئ. وفرق بين المعنى «القصد» الذي أراده المؤلف، والمعنى الكامن في النص. وما يعنينا هو المعنى الكامن في النص، ويمكن الوصول إليه من فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن أن يعنيها النص. وهذه مهمة الهرمنيوطيقا التي يتجاذبها اتجاهان؛ اتجاه التركيز على النص والمؤلف عند «بيتي» و«هيرش»، واتجاه يبدأ من موقف المفسر الراهن باعتبار هذا الموقف (الوجودي) هو المؤسس المعرفي لأي فهم عند «جادامر».
3
شعرت بدفء العلاقة مع رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط «توم نيف» وزوجته «جين»؛ فقد عاشا في القاهرة سبع سنوات عندما كان «توم» يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. أول مرة تناولت العشاء في بيتهم، قالت لي: «شوف يا نصر أنا هعاملك مثل معاملة الأسر في مصر، سأضع طعاما في طبق، وإذا قلت كفاية شكرا، سأستمر في وضع الطعام. العادة هنا عندما تقول كفاية، الناس تكف عن وضع الطعام، فلا بد تكون واضح بدون خجل، ولو كان فيه حاجة انت عايزها زي ملح أو «مستاردة» أو صودا ومش موجودة على الترابيزة، لا تستحي أن تطلبها. إيه الأخبار يا نصر؟ العصفورة قالت لي إنك خرجت للعشاء مع بنت من الجامعة؟» فقلت لها: أبدا ما فيش حاجة بيننا، دا كان عشاء عادي.
فقالت: «هو انت مكسوف؟ إذا كان الموضوع محرج لك ما فيش مشكلة؟» حاولت أن أشرح لها: «لا، أبدا ما في إحراج، خرجنا وكان عشاء عاديا لكن الكلام انقلب سياسة ونقاشا حول مفاوضات السلام في كامب ديفيد، ومعاهدة «السادات وبيجن» الشهر الماضي. ولما عرفت أني ضد سلام منفرد بين مصر وإسرائيل، وضد تنازلات «السادات» في شروط المعاهدة، المعلنة منها والسرية، وهي كمان «يهودية».» ضحك توم زوجها، وعلا صوته: «خارج على عزومة عشاء مع بنت زي القمر، ورايح تتكلم في السياسية ومصر وإسرائيل، دا أنت طيب أوي يا نصر.»
حاولت أن أدفع ثمن العشاء، فاعتبرت دا تقليل من شأنها، ودخلنا في جدل تاني.
انخرطا الاثنان في الضحك، ووضعت «جين» مزيدا من الطعام على طبقي، وانقلب العشاء حوارا عن الوضع في البلاد العربية بعد معاهدة «السادات وبيجن».
أحاول التعرف إلى الناس، وإلى ثقافة وعادات وتقاليد في المجتمع الأمريكي. لاحظت التقسيم ليس فقط بين شمال «فيلي» - اختصارا ل «فيلادلفيا» - وجنوب «فيلي» بين البيض والسود؛ فالمواصلات العامة: الأتوبيسات تجد البيض يستخدمونها أكثر، والسود أكثر استخداما للمترو تحت الأرض. داخل النوادي الليلية للسود أجد نفسي بينهم، أستمتع بموسيقاهم. خرجت من النادي في طريقي إلى مسكني، وكان الوقت متأخرا، حول مدخل المترو مجموعة من الشباب الزنوج، ولم يكن أحد بالطريق، التفوا حولي في دائرة. شعرت أنها النهاية. اقترب مني أحدهم، في الثامنة عشرة على الأكثر، وقال: أنت من أين؟
حاولت أن أكون هادئا بقدر استطاعتي، وقلت: «من أفريقيا.» واستكملت: «أنا من بلد اسمه مصر في أفريقيا.» قال: وماذا تفعل هنا؟
Bog aan la aqoon