كنت شديد التقرب من فكر الثورة وحلم العدالة الاجتماعية، من وجهة نظر دينية، فكتبت مقالا وأنا في التاسعة عشرة، عن أدب العمال والفلاحين، ناقشت فيه قضية هل أدب العمال والفلاحين هو ما يكتبه العمال والفلاحون أنفسهم، أم هو الأدب المعبر عن مشاكل وأحاسيس العمال والفلاحين حتى لو كتبه برجوازي. وأرسلت المقال في خطاب إلى مجلة الأدب التي يصدرها الأستاذ «أمين الخولي»، والذي بدأت أتابع كتاباته. وللمفاجأة وجدت المقال منشورا سنة اثنتين وستين، وبدأت أهتم أكثر بموضوع أدبية القرآن في كتابات «سيد قطب» وكتابات أخيه الأكبر «محمد قطب»، وقرأت رسالة «محمد أحمد خلف الله» عن الفن القصصي في القرآن الكريم؛ فازددت انجذابا للنظرية الأدبية في القرآن.
كنت ممزقا بين إيماني بدور ثورة يوليو وسعيها إلى العدل الاجتماعي، وزعامة «جمال عبد الناصر» الذي تحول إلى رمز، وبين إيماني بالدور الأساسي للإسلام الذي عايشته في القرية، وفي فهم الإخوان المسلمين وحرصهم على قيمة العمل والجدية بعيدا عن الدروشة. كنت ممتلئا بحلم الوطن الناهض بالكرامة والعدل الاجتماعي، فأرسلت خطابا ل «جمال عبد الناصر»، ووصل إلي من الرئاسة خطاب به صورة له. وجدت الحماسة في الأغنية الوطنية والأغنية العاطفية الجديدة، مثل «صافيني مرة وجافيني مرة» بواقعيتها، ولم تجذبني آهات من يتربعون على عرش الغناء في ذلك الوقت. وجذبني شعر «صلاح جاهين»، وقصيدة العامية. وبدأت أكتب الشعر أيضا حتى حصلت على جائزة الثقافة الجماهيرية في الشعر. وكتبت مقالا آخر عن أزمة الأغنية المصرية أناقش الأغنية الوطنية والأغنية الاشتراكية، ونشر الأستاذ «أمين الخولي» المقالة أيضا في مجلة الأدب (مجلد تسعة، عدد سبعة، سنة أربع وستين).
في شرطة نجدة المحلة مشاكل كثيرة كانت تأتيني من كوني مدنيا أناقش الأوامر، فحولت للتحقيق أكثر من مرة، لكني تعلمت طرقا للمقاومة والحصول على الحق داخل هذه البيئة. كانت مجموعتنا الأدبية غير مرحب بها، وعين الأمن تراقبنا. وذهبت إلى الضابط المسئول وسألته: «إنتو بتراقبوني ليه؟» فقال: «هذا شغلنا.» ضقت بتصرفات الدولة البوليسية وغياب الحريات والديمقراطية وحرية الفرد وكرامة الإنسان التي تهان كل يوم أمامي في قسم الشرطة. وكان القبض على «سيد قطب» في تنظيم القطبيين ومحاكمته ثم إعدامه بعد ذلك، والقبض على زميلنا الرقيق كاتب القصة «زكريا التوابتي»، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما. بدأت أدرك استخدام الدولة للدين كوسيلة في فرض سلطانها.
شعرت بالرغبة في الخروج من حالة العسكرة ومن هذا العمل، ومواصلة تعليمي العالي؛ فهذا «جابر عصفور» تخرج في كلية الآداب وأصبح معيدا. والدراسة الجامعية أصبحت مجانية بعد قرارات حكومة الثورة. أعلنت جامعة الأزهر تحت رئاسة د. «محمد البهي» عن افتتاح كلية الدراسات العربية والإسلامية، ضمن مشروع تخريج دعاة، أنها ستقبل جميع الحاصلين على الشهادات المتوسطة لا الثانوية العامة فقط، ومن كل سنوات التخرج. وبالفعل أحضرت الكتب لكي أستعد لامتحان القبول، وبدأت أتعرف على لغة كتب التراث، فقرأت حاشية «الباجوري» على السلم في المنطق، والجوهرة في الفقه، وألفية ابن مالك في النحو، وتفسير النسفي، وكتبا في علم الكلام. وقبل موعد الامتحان بأسبوع، ونظرا لأن آلافا تقدموا، قررت إدارة الكلية قصر القبول على دبلوم المعلمين في أي سنة، وبقية شهادات خريجي هذا العام فقط. فلم أتمكن من دخول الكلية، فقررت أن أذاكر للثانوية العامة «منازل» للدخول للجامعة .
6
بعد عدة أشهر من إعدام «سيد قطب» شنقا، وخلال أزمة إغلاق مضايق «تيران» أمام الملاحة الإسرائيلية، كنت بأحد المقاهي أشاهد كلمة ل «جمال عبد الناصر»، وصحت في وسط الناس: «هو عامل نفسه فريد شوقي، دا مش كلام رئيس دولة.» وكاد الناس في المقهى أن يفتكوا بي. وحدثت الهزيمة، وكنت متوقعها، وليس بأقل مما حدث، لكن أصابتني حالة من الاكتئاب لضياع الحلم. أجلس على الرصيف أمام النجدة حافي القدمين، رأسي يتدلى على صدري. ما إن رأيت «سعيد الكفراوي» قادما في ذهوله حتى انفجرت باكيا، وجلسنا على قارعة الطريق نبكي. أسبوعا ملقى على ظهري أنظر إلى سقف الغرفة بلا نوم. وجاء خطاب «عبد الناصر» بالتنحي عن الحكم، وكنت راغبا أن يتنحى، بل وأن يحاكم، لكن الشعب المصري تحركه العواطف، فخرج الناس إلى الشوارع خروجا عفويا يطلبون من الزعيم، الرمز، الأب، أن يتحمل المسئولية، يطلبون من زعيم مقتول أن يقود. كنت غاضبا جدا من هذا التصرف. كانت فرصة كبيرة أن يتخلص الشعب المصري من عقدة الأب، بل إنها كانت فرصة كبيرة ل «عبد الناصر» أن يحدث تغييرا حقيقيا وجذريا، ولكنه لم يفعل. لم يتزعزع إيماني بالثورة ومبادئها، ولكن يجب أن يحاسبوا، وأولهم «عبد الناصر» الذي ظل داخلي رمزا جميلا على الرغم من غضبي.
أمي في حالة من الفزع الدائم؛ فقد عاد الكثير من الجنود ولم يعد أخي «محمد». أغادر البيت أبحث عن خبر عنه، ذهبت إلى وحدته العسكرية بالقاهرة، لا أحد يخبرنا بشيء. في المستشفيات العسكرية أبحث في كشوف القتلى والجرحى عن اسمه، والكثير من الأهالي لا يقرءون، فأقرأ الكشف عليهم، والكشوف تتغير كل ساعة. ويا لبؤس الجرحى المهملين! بلد لم تكن مستعدة لحرب. وجدت اسم «محمد أبو زيد»، لكن كان مجرد تشابه في الاسم. لم يكن معي مال كاف ولا مبيت، فذهبت إلى جامعة القاهرة أبحث عن «جابر عصفور» كي أبيت عنده، دخلت المكتب فوجدت رجلا يجلس يرتدي قميصا بنصف كم، وفي ذراعه علامات جراحة واضحة، ناظرا للا شيء. سألته عن «جابر »، قال: «هو انت قريبه؟» فقلت: «صاحبه.» وأتى «جابر» وعرفني به؛ د. «عبد المحسن طه بدر»، مدرس في قسم اللغة العربية. كان «جابر» عائدا شاحب الوجه من مقابلة مع المشرفة على رسالته د. «سهير القلماوي» التي لم يعجبها ما كتب في الرسالة، فكان في حالة مزاجية غير جيدة. تحدثنا عن أخي، وعرض د. عبد المحسن أن يساعد؛ فله من يعرف بالجيش. وذهبت للمبيت في غرفة «جابر»، على سطح منزل قديم في إحدى حواري قلب الجيزة بالقرب من كازينو «الحمام» خلف كوبري الجيزة القديم.
وصل إلي خطاب أمر تجنيدي في القوات المسلحة لحاجة الجيش إلى تخصص إلكترونيات، على الرغم من أني العائل لأسرتي. وكان معنى هذا التكليف هدم الأسرة كلها، وهدم حلمي بالحصول على الثانوية العامة، فسألت الرجل وماذا إذا لم ألب الأمر. قال: «سوف يتم القبض عليك.» فقلت: «دعهم يقبضون علي؛ فلن أذهب بنفسي.» وبمكتب التجنيد بالإسكندرية حاول الضابط أن يبرر استدعائي بأنه ببعض التمرينات أفقد بعض الوزن، لكني أعفيت من التجنيد للسمنة المفرطة، ولأني العائل للأسرة. كنا في حالة بحث دائم عن «محمد»، وفشلت كل محاولاتي أسبوعا أو عشرة أيام في القاهرة، حتى وصل إلينا خطاب منه بعد شهر يخبرنا أنه نقل إلى وحدة بالزقازيق بمحافظة الشرقية، فنهضت مع ابن عمي «السيد أبو زيد» لنزوره. ننتظر مع كل أهالي الجنود خارج الوحدة، مر من أمامي ولم أعرفه، ملامحه مختلفة تماما، كان قليل الكلام، ولم يتحدث عما حدث. قضى تسع سنوات في الخدمة العسكرية.
حصلت على شهادة الثانوية العامة «منازل» بأربعة وسبعين ونصف في المائة «قسم أدبي»، وهو مجموع أكبر من الستين التي حصل عليها «جابر عصفور» قبلها بثماني سنوات. كان عمري خمسة وعشرين عاما، قدمت طلبا إلى رؤسائي في العمل للانتساب إلى كلية الآداب، فقبلت بسخرية شديدة، ورفض طلبي. ولم أعرف ماذا أفعل، فقدمت أوراقي لمكتب التنسيق كطالب منتظم، وخفت أن يعترضوا إن ذهبت أقدم بنفسي لأن سني كبير، فأرسلت أحد الأصدقاء ليقدم لي. وتحقق الحلم، وقبلت كطالب منتظم في كلية آداب القاهرة، لكني أعمل بالمحلة. كان دخولي الجامعة، في مظاهرات الطلبة في نوفمبر «ثمانية وستين»، اعتراضا على الأحكام المخففة التي صدرت ضد قادة سلاح الطيران عن الهزيمة. كادت عيناي تبكي فرحا بتحقق حلم الوصول إلى كلية الآداب، وفي ذهني قسم الفلسفة حتى أتعلم شيئا جديدا. والأدب العربي يمكنني أن أقرأه بنفسي ولا أحتاج إلى قسم اللغة العربية لذلك. ودخلت مدرج «ثمانية وسبعين» الذي لم يكن به موضع قدم من المئات الموجودة به، وفجعت بمحاضرة الفلسفة العامة. ما إن بدأ الأستاذ المحاضرة بصوته الرتيب يقرأ من كتاب وأنا دخلت في نوم، وليس من عادتي أن أنام في أي مكان، فظننت أن السبب هو وجودي بعيدا عن المنصة، فاقتربت واقتربت حتى وصلت إلى المقدمة، وما إن جلست حتى دخلت في نوم عميق مليء بالأحلام. ولم أجد النقاش ولا الحوار الذي أنتظره وأتصوره عن الجامعة الحلم، فرسخ في ذهني البعد عن قسم الفلسفة. وفي محاضرة تاريخ الأدب العربي وجدت الدكتور «شوقي ضيف» أيضا يملي على الطلاب.
على طالب الانتظام أن يحضر على الأقل خمسة وسبعين في المائة من المحاضرات، ولم أستطع. وفي محاضرة الدكتورة «نادية عيد» للغة الإنجليزية لمحت أني أحضر لأول مرة، فسألتني، فقلت: «هل يمكن أن أحدثك بعد المحاضرة؟» فقلت لها: «رؤسائي في العمل لم يوافقوا على نقلي، وهذا سبب عدم حضوري.» وسببت رئيسي في العمل وضيق أفقه، فأشارت بيدها أن أتوقف عن الكلام والسب، وأخبرتني أن رئيسي في العمل رئيس المصلحة هو والدها. شحب وجهي، وهرولت خارجا من الغرفة. جرت في أعقابي وعادت بي، وقالت: «أنت كنت تسب رئيسك في العمل، وكل واحد من حقه أن يعبر عن مشاعره ضد رئيسه، ولم تعرف أنه والدي، لكن أنت متأكد أن الأمر بيده؟ قلت: «بيده أن يذهب بي إلى وراء الشمس.» فطلبت أن أكتب طلب نقل وأعطيه لها، فكان قرار نقلي من المحلة إلى القاهرة في أربع وعشرين ساعة؛ مما أصابني بحالة من الارتباك لنقل أسرة بكاملها في أربع وعشرين ساعة ؛ ومدارس «كريمة وأسامة وآيات» وإيجاد سكن؟ وأخبرني «جابر» عن حجرة صديقه «رشاد»، سيتركها، فذهبنا لاستئجارها.
Bog aan la aqoon