صالح يخشى الدخول إليه في مكتبه، لكن العمل كان يقتضي أن يلقاه، لم يقل له شيئا، كأن شيئا لم يحدث. استكبر نادر أن يكلمه في هذا الأمر ولكنه في نفس الوقت لم يستطع أن يعامله كما كان يفعل، هي الأعمال فقط ولا حديث آخر.
وفي يوم بينما صالح واقف أمامه يعرض عليه بعض أوراق، وجد نفسه لا يحتمل. قام فجأة ودخل إلى جناحه في السراي وظل يسير في الأروقة على غير هدى. ومر بالغرفة التي يقوم فيها أنطونياني برسم زوجته، ووجد قدميه تقودانه إلى داخل الغرفة، ما هذا؟ أهذا هو الجانب الآخر من الحياة؟ أحقيقة ما يرى؟ زوجته بين أحضان أنطونياني، والطفلة تنظر إليهما، يقبلها وهي تحمل طفلتها.
رأته منيرة، شهقت، ولكنه كان قد عاد تاركا الغرفة. لم يبق له أحد، لا أحد، لا أحد.
نزل إلى السيارة. عقله لا يفكر، لا يفكر مطلقا. هو في روع آخذ جبار عنيف. انطلق بالسيارة. وانطلق وانطلق وطال الطريق وهو لا يدري. في أوروبا كنا نسير سويا، نادية، أنا أول من عرفت، هذا لا شك فيه، كل شيء مشكوك فيه، لماذا؟ أمي، نادرة، ومنيرة، لماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومع من؟ إنه لن يبقى، إذن فهي تعطي نفسها لمن يرغب. عبث، عبث، عبث، السمعة، الناس، لا يهم. المهم هو أنا. أنا. وهل بقي لي أنا؟ وما أنا؟ ألسن زوجتي وبنتي وأمي وأختي؟ ماذا بقي من أنا؟ نادية، منيرة، هل رأيت ما رأيت حقا؟ أعود لأتأكد؟ لعله ما يزال يقبلها، أعود لأرى؟ زوجتي منيرة، ماذا بقى لي من أنا؟ لا يحس بالطريق ولا يحس بشيء. وفجأة نبتت أمامه فتاة صغيرة لوى السيارة ليتفاداها فإذا بالسيارة تنقلب مرات حتى تستقر مقلوبة في الحقول، ثم يهوم الصمت. •••
في المستشفى بدأ يفكر، لو قال ما رأى لجنى على نادية جناية لا تستحقها؛ لو صمت، سيجن. ماذا يفعل؟ ماذا يفعل؟
تدخل منيرة وتخرج، لا يستطيع أن يحادثها إذا انفرد، فإن دخلت أمه حادث منيرة بما لا يجعل الأم تشك في شيء. فإذا خرجت الأم صمت. - كان يقبل نادية.
لم يجب، لا يستطيع أن يصدقها ويكذب عينيه. لا حديث، لا حديث على الإطلاق.
حاولت نادرة أن تنتهز الفرصة لتعود الأمور إلى طبيعتها بينها وبين أخيها، فدخلت تزوره، لم يحدثها ولم ير داعيا أن يحدث منيرة أمامها، ما فعلته نادرة أهون مما فعلته منيرة، ولكنه لم يستطع أن يحتمل وجودهما معا أمامه. قال في حزم: اخرجا. - وخرجتا، كل منهما تعلم أن أمر الطرد صادر لها وحدها. •••
شفي وخرج من المستشفى ولكنه انقلب شخصا آخر. أصبح لا يترك بيت إلهام وأصبح يطالبها بإقامة الحفلات. كان يريد أن يعود إلى هذه الأيام التي أعطته فيها إلهام سيارة وفتاة، فهو يلاحق كل من تقع عليها عيناه من فتيات. وأصبح لا يستخفي في علاقاته حتى لقد سرت الإشاعات أنه فقد قدرته الجنسية أو كاد، ويريد أن يستر هذا بما يفعل مع النساء. وهو لا يعنى بشيء من هذا وإنما يسير طريقه الذي خطه لنفسه غير مكترث بأحد أو بشيء. وإلهام تهيئ له كل ما تصبو إليه نفسه. أصبح لا يصادق إلا الخدم والقوادين، وتردى في طريق لم يتصور أنه سيسير فيه، أصبح يضحك ضحكته الشهيرة، ولكنه كان كلما ضحكها أحس أنه يضحك من نفسه وأحس أن العالم أجمعه يضحكها منه معه، إلى أين الطريق؟ إلى أين تنتهي به نزواته؟ لا يدري أو لعله يدري ولكنه لا يريد أن يفكر، أصبح ابن لحظته يطالبها أن تعطيه كل متع العالم ولا يهمه من بعد ماذا ستحمل اللحظة التالية. كل ما يريد أن ينسى كل شيء عن كل شيء، ويسمع مديح الخدم والقوادين، ويصدقه، إنه يريد أن يصدقه؛ فهو أبدا لا يحاول أن يبحث وراء الكلام الذي يصدر إليه من أي منبع ولا عن أي مصدر يصدر، له لحظته لا يعنيه ما بعدها، وله الكلمة ولا يعنيه ما وراءها، وحين يحاول بعض المخلصين من المستحقين أن يقولوا شيئا يهددهم أو يعرض عنهم، فكل حديث لا يمتعه لا يريده، لا يسمعه مهما يلح عليه. والمخلصون قلة والمنتفعون كثرة. والمديح جميل والنصيحة بغيضة. وهو يريد اللحظة، يريدها متعة. والكلمة المادحة تزيد المتعة متعة، فليخض الأمواج؛ والشاطئ؛ إلى أين ترسو السفينة؟ لا يهم، إنه يغوص في الأمواج ولا شأن له بالشاطئ، لعل بحره يكون بلا شاطئ، لكل بحر شاطئ، ولكن لعل، لعل بحره هو بلا شاطئ، وجد متعته الكبرى في القمار، أصبح يقامر بكل مال يقع في يده، وأوشك الوقف في مرتين أن يصبح مرهونا جميعا لولا أن توسل المستحقون لدى الديانة فتنازلوا عن حقوقهم، أصبح الوقف جميعا مهددا بالخراب، فلم يعد يعنيه أن يبقى أو لا يبقى، وأصبح المستحقون في ذعر دائم أن يصبح عليهم صباح ليجدوا الوقف جميعا أصبح في أيدي الناس بددا، ويصبح ريعه سدادا للديون، وحينئذ لن تجدي الوقفية في شيء، إنه يغامر بجنون، كان القمار يمده بلحظات المتعة ويجعله يغوص أكثر في أعماق الموج ويجعله ينسى أكثر وأكثر. إن للأمواج شاطئا، فإن فكر لحظة، مجرد لحظة، لعل، لعل موجي يكون بلا شاطئ. اضطرب المستحقون وأصبحوا لا يدورن بماذا يطالعهم الغد أو بماذا يوافيهم المساء. وأصبح أكثر الجميع هلعا موظفو الوقف، فكان من لا يمدحه يغيره. فطرد الموظفين واستبدالهم بآخرين أصبح لعبة يلهو بها كما يلهو بأوراق اللعب. •••
وتمر الأعوام وقليلا ما تمر، ويفاجأ بأن منيرة حامل، ولا يقطع هذا الخبر الإشاعة. فإن الضعف لا يمنع القدرة منعا تاما. وتكتمل شهور الحمل وتلد منيرة فتاة أخرى هي نعمت.
Bog aan la aqoon